يتعامل بعض العرب مع كل حسن يأتي به الغرب على أنه «بضاعتنا رُدت إلينا»، على اعتبار أن الحضارة الغربية استفادت من عطاء الحضارة الإسلامية في العلوم الإنسانية، ناهيك عن العلوم الطبيعية. وفي الإنسانيات يبرز، لدى أصحاب هذا الطرح، دور ابن رشد في إعلاء مكانة العقل وهضم التراث اليوناني وتقديمه للغرب، ودور ابن خلدون في بناء علم العمران، ناهيك عن إسهامات علماء الطبيعيات مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم.
وينقسم السائرون على هذا الدرب إلى فريقين الأول يستخدم مقولة أن ما يعرضه الغرب هو بعض بضاعتنا، ليسند مسلكاً مفاده أن أخذ الأفكار السياسية والاجتماعية الغربية وتطبيقها على المجتمعات العربية وغيرها، لا يعني زرع نبات غريب في تربتنا، لأننا شاركنا في تهجين هذا النبت. أما الثاني فيريد بتلك المقولة أن يخدم رؤية تقوم على رفض استنكار اللجوء إلى الغرب لاستيراد أفكار تنهض بواقعنا، ما دامت جذور تلك الأفكار موجودة لدينا، لكنها مطمورة في تراثنا، وتحتاج إلى من ينقب عنها، ويعيد إنتاجها في صورة عصرية تتماشى مع ما تتطلبه حياتنا المعقدة.
لكن من بين هؤلاء يوجد من لا يؤمنون بغربلة التراث وتمحيصه، إنما تطبيق ممارسات القرون الغابرة بالصورة نفسها التي كانت عليها، دون تفرقة بين البشري الذي أفرزته السياسة وأنتجه المجتمع في جدله مع الزمان والمكان، والإلهي الذي فرضه النص، حيث الثوابت العقدية، وتحديد طريقة التعبد.
وهناك من ينظرون إلى ما لدى الغرب على أنه أرقى ما وصلت إليه البشرية في تطورها التاريخي من نظريات اجتماعية، ولذا فإن الأنجع هو الطلب على كل ما يعرضه الغرب، من ثمار فكرية «ناضجة» بدلاً من إضاعة الوقت في زرع شجر معرفي آخر. ومن بين المتبنين هذا الرأي من يبدون انتماء قوياً لأوطانهم، ويعتبرون أن ما يعتقدون فيه هو الطريق الصائبة. لكن هناك من بينهم المتحمسين لهذا التوجه، إما من منطلق شعور بالدونية تجاه الغرب، أو تكريس لحالة من التبعية، سواء بقصد، عبر خدمة مؤسسات وجهات غربية معنية، أو من دون قصد، من خلال الانبهار بالحضارة الغربية، خاصة من بين عناصر النخبة الفكرية التي تلقت تعليمها في أوروبا والولايات المتحدة.
ويبرز تيار توفيقي يتحمس للمزاوجة بين «التراث» و«الحداثة» أو بين «الأصالة» و«المعاصرة»، منطلقاً من اقتناع مفاده أنه إذا كان من الصعب تجاهل العطاء الاجتماعي والسياسي للحضارة الغربية في تفوقها الراهن، فإنه من الخطأ إهمال ما يكمن في تراثنا العربي الإسلامي من قيم إنسانية ورؤى اجتماعية.
ويستند أنصار هذا التيار إلى داعمين الأول يرتبط بحركة المجتمع، ليس على مستوى كل فرد على حدة، لكن على مستوى الكتلة الرئيسية أو الغالبية الأعم، حيث يسير التمسك بقيم اجتماعية أصيلة بالتوازي مع تبني قيم حديثة ينتمي بعضها إلى الغرب، دون أن يكون هناك شعور بالانفصام الاجتماعي، يعوق مسيرة الحياة اليومية.
أما الثاني فيتعلق باقتناع تام بأن باب الاجتهاد لا يغلق أبداً من الناحية الشرعية، وأن الناس أعلم بشؤون دنياهم، وأن ما يوجد الآن، يختلف كلية عما كان بالأمس، ولذا لا بد من أن تكون هناك استجابة قوية وشافية للتحديات التي يفرضها الواقع الحالي. ولأن هذه التحديات عصرية الطابع، وهي من نتاج حركة التحديث، فإن التعامل معها بأدوات قديمة لن يمكننا من مواجهتها، ولذا لا بد من آليات عصرية يتم استخدامها بوعي، دون افتئات على الخصوصيات. لكن هناك من يرى أن الزج بالخصوصيات أو التمسك بها يبدو وهما، والأنجع هو التفاعل مع المعطى العصري المطروح دون قيود، لأن تيار العولمة سيجرف أمامه كل أولئك الذين يدعون أن ما في تقاليدهم وموروثاتهم أفضل مما هو متاح حاليا.