بمناسبة مرور مائة وثلاثة وعشرين عاماً على رحيل الأفغاني، فإن مشروعه ما برح يبدو حياً، فالعالم الإسلامي في مواجهة الاستعمار في الخارج والتخلف في الداخل.. بعد التحرر الوطني وتكوين الدول الوطنية الحديثة. انتكاسة جاءت في صورة غزو مباشر لعدة بلدان إسلامية ومن خلال احتلال استيطاني في فلسطين أو عبر هيمنة اقتصادية وثقافية. مازال مشروع الأفغاني التوحيدي لوادي النيل، وللمغرب العربي، ولمصر والشام، وللعالم العربي والإسلامي وكافة شعوب الشرق.. له دلالته في ظل التفتت الذي يطبع أوضاع الأمة العربية حالياً ويجعلها كانتونات عرقية وطائفية.
مازال الأفغاني يلبي بعض مطالب العصر، إذ يمثل شجاعة نقد القدماء، ورفض التقليد، والدعوة إلى الاجتهاد. فالقديم من إبداع أجيال مضت، ولكل عصر إبداعه تلبية لحاجاته، ولا يكفي القياس الفقهي القديم، إذ تحتاج الأمة إلى الاجتهاد الحر. لقد حوّل النص إلى تجربة ذاتية، وليس مجرد تدوين لغوي، فالمعنى من داخل النفس إحساس، ومن خارجها رؤية. ?دافع الأفغاني ?عن ?أصالة ?الأمة ?ودورها ?التاريخي ?في ?ازدهار ?العلوم ?والفنون. ?ورد ?على ?هجمات ?المستشرقين ?واتهامهم ?للحضارة ?الإسلامية ?بالتخلف ?ومناهضة ?العلم، ?وأدرك ?أن ?الخطر ?الأول ?هو ?الهيمنة ?الخارجية. ?بدأ ?بالواقع ?المباشر ?وليس ?بالنص، ?وأعطى ?الأولوية ?للحاضر ?على ?الماضي، ?وللمصلحة ?على ?النص.. ?ففجّرت ?تعاليمه ?الثورة ?العُرابية، ?ودعت ?إلى ?الطموح والجد ?ضد ?روح ?اليأس ?والإحباط ?والتشاؤم. ?كما ?ميّز ?بين ?الدين الباعث ?على ?التقدم ?والنهضة ?والرقي، ?وبين رجال ?الدين الذين ?يستعملونه ?دفاعاً ?عن ?سلطتهم ?ومصالحهم.
ومع ذلك يحتاج فكر الأفغاني، بعد أزيد من قرن، إلى تطوير نظري حتى يكون مشروعاً تحررياً عملياً مواكباً لأسس نظرية أكثر إحكاماً، كي لا ينهار. فهل يمكن تطوير فكر الأفغاني إلى ما هو أبعد حتى يستطيع مواجهة واقع التفكك والتخلف والقهر والفساد في الداخل؟ ألم يكن أحد أسباب المشروع الإصلاحي الأول هو أن أساسه النظري لم يكن بقوة تحديات العصر؟
لعل الدهريين لم يعودوا الخطر الماثل حالياً، كما كان الأمر في القرن التاسع عشر، وكان نموذجهم نظرية التطور عند داروين، والتي رأت فيها الأوساط الدينية خطراً على العقيدة لأنها تنكر «الخلق من عدم». الخطر الآن هو الإيمان الكاذب واستغلال الدين سياسياً وكأداة للصراع على السلطة. ليس البديل عن نظرية التطور وقوانينها أخلاق الحياء والأمانة والصدق، بل معرفة قوانين التاريخ من أجل السيطرة عليها بالفعل الإنساني. ولا تكفي إعادة تفسير فكرة القضاء والقدر باعتباره جبراً ذاتياً، إذ ما تزال متغلغلة في العقائد الشعبية والأمثال العامية. ربما يلزم الآن التحول إلى نظرية خلق الأفعال والتأكيد على الحرية الإنسانية. ورغم الأهمية القصوى للعلم، فإن الدين مازال له الأولوية، فهو المحرك والباعث والفاعل في حياة الناس وتقدم الشعوب. وكان تركه والقطيعة معه سبب انهيار بعض التجارب الغربية. وقد لا يكفي المدخل الأخلاقي وحده لتطور المجتمع وتقدم التاريخ دون قوانين موضوعية وتحليل علمي للواقع.
ورغم نقد الأفغاني لمادية الغرب واستعماره، فإن النموذج الغربي مازال ماثلا في كل حركات الإصلاح الحديثة، الدولة الحديثة القائمة على الدستور والبرلمان وحرية الصحافة والعلم.. دون تأصيل لها في الوعي الشعبي. ظلت أداة التغيير عند الأفغاني هي السلطة، «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». وغلبت على فكره الماينبغيات، ووصف ما ينبغي أن يكون أكثر من تحليل ما هو كائن، مثل معظم الإصلاحيين العرب. وقد يكون التحول من أسلوب الخطابة والوعظ إلى أسلوب العلم والتحليل أجدى لفهم الواقع، وتحليله تحليلاً علمياً أفضل من الإنشائيات التي تؤثر في الحال وليس في المآل، في العاجل وليس في الآجل.
لابد من محاولة إعادة النقاش حول ثنائيات الثقافة العربية القديمة: الروح والمادة، النفس والبدن، الخير والشر، الحق والباطل، الفرد والجماعة.. وثنائياتها الحديثة: الاشتراكية والرأسمالية، الشرق والغرب، السلفية والعلمانية، الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد.. في نظرة توحيدية جديدة.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة