كيف وصلنا نحن العرب إلى هذه الأحوال والمآلات التراجيدية؟ الوصايات والاحتلالات تنهش الحدود والمدن بخطط متدرجة أو متسارعة لإفراغ هذه البلدان من سكانها بهوياتهم وانتماءاتهم ومصائرهم. كأنما من منتصف القرن الماضي بدأت العمليات المبرمجة: الاحتلال الإسرائيلي يُهجر مئات الألوف من الفلسطينيين ويحتل منازلهم وحقولهم وقراهم. عام الشؤم 1947 الذي استمرت مفاعيله حتى القرن الحادي والعشرين، والاقتلاع الفلسطيني مستمر، وقد لا ينتهي باتفاق أو بصفقة أو بقرارات دولية.. والدليل أنه بعد هزيمة عام 1967 وانتصار العرب عام 1973 استكملت عمليتا التهجير والاستيطان بوتيرة متصاعدة حتى اليوم. لا حدود ثابتة لإسرائيل. لا أرض محددة لأي دولة فلسطينية. فالديموغرافيا هوية وشعب وتقاليد وتاريخ وثقافة ولا يمكن نسفها إلا باجتثاث العنصر البشري ورميه في أمكنة أخرى.
وليس مصادفة أن تقع الحرب اللبنانية بعد بضع سنوات من حربي 1967 – 1973... لترث عدة التهجير كسلاح بين الطوائف المتحاربة: ثمانمائة ألف نازح لبناني قسري في الداخل ونحو خمسمائة ألف مهاجر إلى الخارج. وهذا كثير إذا احتسب بعدد سكان لبنان آنذاك: نحو أربعة ملايين نسمة. وهكذا تساوى في هذا البلد التهجيران: الفلسطيني إليه واللبناني إلى خارجه. فالطغاة والميليشيات والخوارج حفظوا هذا الدرس جيداً، وها هم يصدرونه بدقة إلى بلدان عربية أخرى باعتباره سبيلاً فاعلاً لتغيير الأمصار وإلغاء الشعوب باقتلاعها عن أرضها، وتحطيم انتماءاتها، لتسهيل تمكنها من الهيمنة عليها.
نظن أن سوريا هي التي دفعت الثمن الأفدح في هذا المضمار. ثمن خيالي: تهجير منهجي لسكان ذوي هوية عربية وإسلامية محددة بلغ حتى الآن أكثر من عشر ملايين سوري تولت اقتلاعهم عدة جهات خارجية، ولعب كل طرف دوره في التهجير: أكبر ظاهرة ترانسفير في القرن الحادي والعشرين: سوريا مكتظة الآن بالقوى الخارجية والإرهابيين وأصحاب الأطماع التوسعية وباتت شبه فارغة من شعبها العريق. فهل بقى شيء في سوريا لم ينتهك لا تاريخ ولا هوية ولا انتماء ولا مستقبل ولا معين.
ومن سوريا إلى ليبيا اللعبة الجهنمية ذاتها، اجتمع عليها اللئام من كل «لسان وأمة» من الأتراك إلى «القاعدة» و«داعش» و«الإخوان» بغية السيطرة على خيراتها النفطية. من خلال إسقاط شرعية الجيش الوطني الذي يقاوم هؤلاء. والشعب بين كل هذه الصراعات الخارجية لاحول له ولا قوة يهجر قسراً بمئات الألوف إلى بعض البلدان العربية وخصوصاً تونس، وبعض بلدان الجوار الأوروبي.
أما العراق فقد وقع تحت وحشية «داعش» في الموصل وسواها وتحت براثن «الحشد الشعبي» و«فيلق القدس» ليدفع ثمن الحروب عليه تهجيراً بمئات الألوف من مناطقهم. ومحاولة قمع من تبقى منهم لاسيما الثوار الذين يطالبون بالسيادة والحرية وبخروج كل القوى الأجنبية من بلادهم خصوصاً إيران.
ما من ظاهرة أشد إيلاماً وقسوةً وظلمةً من طرد الناس من أرضهم ومنازلهم. كأنها جزء من محاولة غسل الأدمغة والأجساد والمشاعر والانتماءات من تواريخها وجغرافياتها وهوياتها ووطنيتها. لتبقى الأرض الخراب بعد رحيل هؤلاء. فالأرض إنما بسكانها وناسها. وماذا يتبقى إذا عمد المعتدون إلى تجريد السكان كأنهم مجرد كائنات افتراضية وتجريدية سُلّعوا كأمتعتهم وملابسهم وأسمائهم وجذورهم.
التهجير يعني قطع كل علاقة بين الشرور ومنابتها، ويعني ذلك إنتاج بشر مستلبين جدد يائسين عبثيين مقطوعين عن ماضيهم ومستقبلهم وأحلامهم. فهل نعيش نحن العرب اليوم زمن الاقتلاع الجماعي المجنون واللامعقول لنتحول مجرد أشباح خاوية في أراضي الخراب الفارغة، وفي غربات بلا مآل ولا تذكار ولا حتى مخيلات. كأنما صنع كائنات بديلة في أشكال توطين بديل أيضاً.