في كتابه «النور الذي أخفق»، الصادر مؤخراً، يذهب المفكر السياسي البلغاري «إيفان كراستوف» إلى أن ما تشهده أوروبا الوسطى والشرقية من نزعات قومية شعبوية صاعدة ليس مجرد تطور سلبي في عملية الانتقال الديمقراطي التي بدأت بعد انهيار الأنظمة الشيوعية بل هو مظهر تصدع جوهري في المنظومة الغربية نفسها.
لقد ساد بعد انهيار جدار برلين تصور عام بأن الجناح الشرقي من أوروبا سينتقل إلى الوضع «الطبيعي» من خلال الليبرالية الاقتصادية والسياسية على غرار النموذج المتبع في أوروبا الغربية. بيد أن ما حدث هو أن «محاكاة» الغرب الليبرالي أفضت إلى نتيجتين أساسيتين مترابطتين هما: انحسار الزخم الليبرالي نفسه نتيجة للازمات الاقتصادية والأخلاقية التي مست المركز الرأسمالي الغربي نفسه في العقد المنصرم، وبروز رأي عام مناوئ لوصاية القوى الليبرالية الكبرى حيث تولَّد شعور بأن هذه الوصاية أفقدت الديمقراطيات الوليدة استقلالها وسيادتها.
عندما كانت الأيديولوجيا الشيوعية مسيطرة كان الأمر يتعلق بمثال طوبائي منتظر لا يمكن تقويمه عملياً، أما النموذج الليبرالي فيقدَّم على أنه النموذج الطبيعي المتحقق، ومن هنا حالة الإحباط الواسعة التي ولَّدتها مرحلة الاختبار والانتقال التدريجي في أوروبا الشرقية والوسطى.
لم تكن «الثورات» التي عرفتها دول المعسكر الشرقي ثورات أيديولوجية أو فكرية، بل هي حسب عبارة هابرماس ثورات «إصلاحية» أو «التحاقية» سلكت مسلك المحاكاة التي ظهرت عقيمة ومحدودة الجدوى.
ومن هنا يرى كراستوف أن الذي حدث في أوروبا الشرقية والوسطى هو قيام نمط من الديمقراطية القومية المحافظة التي تختلف عن تجارب أوروبا الليبرالية في المفاهيم والقيم، وإن كانت تعتقد أنها تمثل الروح الأوربية الحقيقية بقيمها وثقافتها التي قوضتها الحركية الليبرالية في نزوعها «العدمي».
وإذا كانت أوروبا الغربية أصبحت تتخوف من مخاطر النزعة القومية وترى فيها المسلك إلى الحروب والاستبداد، فإن دول أوروبا الشرقية والوسطى نشأت من خلال النزعات القومية بانفصالها عن الإمبراطوريات متعددة النسيج الإثني والقومي، كما أن ثورات التحرر من الأنظمة الشيوعية والهيمنة السوفييتية تمت في إطار الحركية القومية.
وإذا كان التحدي الأكبر الذي واجه الليبراليات الأوروبية هو مأزق إدارة التعددية المجتمعية والثقافية، فإن هاجس السياسات الانكفائية والسيادية للديمقراطيات الناشئة في شرق ووسط أوروبا هو الحفاظ على حالة الانسجام والتجانس في هذه البلدان.
وما يخلص إليه كراستوف هو أن دول شرق ووسط أوروبا صارت اليوم النموذج الذي تتم محاكاته على نطاق واسع في أوروبا الليبرالية التي تعرف صعوداً غير مسبوق للاتجاهات القومية المحافظة التي هي الوجه الآخر للديمقراطية الغربية.
ما يهمنا في أطروحة كراستوف هو ما أبرزه من تمايز واضح بين نموذجين أوروبيين يختلفان من حيث مقاربة نظام الحكم والقيم الاجتماعية، رغم الاتفاق الظاهر في طبيعة الهياكل المؤسسية وفي الخلفيات الثقافية العميقة.
إن المشكل الذي طرح على النخب السياسية في أوروبا الشرقية والوسطى هو نفسه الذي طُرح على بلدان الجنوب التي ينتمي إليها عالمنا العربي؛ فمشروع التحديث الوطني الذي تبنّته القيادات الفكرية والسياسية منذ عصر النهضة وما تلاه من مشاريع بناء الدولة، تمحور حول قيم التنوير الأوربي من عقلانية ونزعة إنسانية وفكرة المواطنة المتساوية، كما أن مسارات الإصلاح السياسي التي برزت في السنوات الأخيرة انطلقت من المنظور الليبرالي الأوروبي الحديث.
بيد أن الأمر هنا يتعلق بأوروبا الأنوار والحداثة التي لم تعد اليوم قائمة، فغني عن البيان أن القيم والمفاهيم المرجعية التي تأسست عليها الحداثة الأوروبية انحسر زخمها وغدت عرضة للنقد الجذري والرفض الحاسم.
صحيح أن البنيات المؤسسية الليبرالية لا تزال في الظاهر مكينة ومستقرة، لكنها فقدت في الغالب فاعليتها بما يفسر ظاهرة «الانتفاضات الانتخابية» بلغة وزير خارجية فرنسا الأسبق «هربرت فدرين»، ويعني بها تحول اللحظة الانتخابية في الديمقراطيات الغربية إلى مناسبة احتجاجية ضد موازين الشرعية السياسية القائمة، بما يفسر صعود الأنظمة الشعبوية غير التقليدية وانهيار أحزاب اليمين واليسار التي أطَّرت لمدة قرنين عملية الصراع السياسي في الغرب.
لقد خضعت قيم التنوير والحداثة إلى نقد تفكيكي عميق في الخطاب الفلسفي الاجتماعي وفي الممارسة القانونية والنظم الاجتماعية، حيث تحولت الذاتية العقلانية الراشدة التي بلورها مفكرو الأنوار إلى ذاتية هوياتية مغلقة غير محصنة باللغة البرهانية الكونية، وتحولت الدولة من الفكرة المجسِّدة للإرادة الجماعية المشتركة إلى أداة لضبط المصالح والمنافع المتولدة عن حركية التبادل الكوني الخارج عن نطاقها السيادي.
وإذا كانت بلدان شرق ووسط أوروبا قد تشبثت بالنموذج الغربي في صيغته القومية المحافظة، مقابل ما تعتبره انحرافات هذا النموذج عن قيمه المرجعية الأصلية، فإن ما هو مطروح علينا في فكرنا العربي هو الاستفادة من الثورة التنويرية الحداثية التي حملت فكرة الكونية الإنسانية إلى أفق التفكير الفلسفي والاجتماعي بدلا من اللجوء إلى مواجهة الاتجاهات الشعبوية المحافظة الصاعدة في الغرب بلغة الصدام الثقافي والديني. أو بعبارة أخرى فإن الغرب الذي علينا محاكاته هو غرب التقدم والتمدن الذي افتتن به رواد الإصلاح والنهضة منذ الأفغاني ومحمد عبده ولم يروا في نزوعه الكوني خطراً على العقيدة أو الهوية.

*أكاديمي موريتاني