على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي والنمو الاقتصادي الذي يشهده العالم، فإن الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الأمم والدول والطبقات والفئات الاجتماعية والمناطق المختلفة تزيد حدة، وفي بعض الدول تتزايد الفروق بين مواطنيها في حصصهم من الدخل والخدمات الأساسية والإنفاق العام، وفي ذلك فإن الدول الغنية والفقيرة تواجه تحديا أساًسياً لتحقق عدالة في التوزيع والفرص بين جميع المواطنين، وبغير ذلك فإن التقدم العلمي والاقتصادي يعمل ضد أهدافه، ويزيد الأغنياء غنى وقوة، ويزيد الفقراء فقرا وتهميشا.
وتتوالى آثار وتفاعلات اللامساواة على نحو مزعج لخطط وبرامج التنمية في بعض الدول، إذ يتبع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية عمليات تهميش اجتماعي وخروج من المجتمعات، وتغييب الوعي والإدراك للتنمية ومتطلباتها، فعلى سبيل المثال تلاحظ الدراسات التنموية المسحية أن ثمة فرقاً مخيفاً بين استخدامات الفقراء والأغنياء للإنترنت وشبكات التواصل، ففي حين يغلب على الأغنياء استخدامها للأعمال وزيادة وتحسين الموارد والتعلم الذاتي والتأهيل لمتطلبات العمل الجديدة فإنه يغلب على استخدام الفقراء التواصل الاجتماعي والتسلية والترفيه، هكذا فبالرغم من أهمية فرصة الوصول إلى الإنترنت بالنسبة للفقراء فإن تحقيق هذه الفرصة لا يؤدي بالضرورة إلى تحسين حياتهم..
ويلاحظ تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية (2019) أن المدركات الذاتية لعدم المساواة تتراجع تبعا للحرمان في البيانات والمعلومات، ولاشك أن غياب الوعي لدى المجتمعات يقلل من قدراتها على العمل لتحسين فرصها وحياتها، بل هي ظاهرة يجب أن تكون تحذيرية لجميع الحكومات والمؤسسات حتى لا يتحول عدم المساواة إلى واقع مكرس ومتقبل. فلا يعرف أغلب الناس حتى في الدول المتقدمة عن توزيع الثروات والفرص بين الأفراد والطبقات في الدول والمجتمعات، ولا يدركون أهمية المساواة في التنمية والعدالة.
إن تطوير الخبرات والمعرفة بالتنمية ومؤشرات الحياة الأساسية يمثل القاعدة الأساسية للتجارب الفردية والجماعية في تحسين الحياة كما يمنح الأفراد والأمم خريطة طريق للعمل والتأثير، وصنع القرارات الذاتية، ومن اللافت جداً كما يقول الفيلسوف الاقتصادي «أمارتيا سن» إن الفقراء يكيفون أدوات رضا وشعور بالسعادة تقلل من إدراك عدم المساواة كما تخفض من السعي لتحسين الحياة، في حين يلاحظ الأغنياء الفروق بين ما يتطلعون إليه والواقع الذي يعيشونه، وهم وإن كان ذلك يخفض من شعورهم بالسعادة فإنه يزيد مساعيهم لزيادة الدخل وتحسين فرص الحياة.
انخفضت نسبة الفقراء فقراً مدقعاً (أقل من دولارين للفرد في اليوم) من 36 في المائة عام 1990 إلى حوالي 8.8 في المائة عام 2018 لكنها نسبة تعني أن حوالي 600 مليون إنسان في العالم ما زالوا يواجهون صعوبات كبيرة في القدرة على الوفاء بالحاجات الأساسية للحياة من الغذاء واللباس والدواء، وبالطبع فإن نقص الدخل ليس إلا مؤشراً واحداً من مؤشرات الفقر ، لكنه يدل على احتمالات الإهمال والتهميش السياسي والاجتماعي الأكثر ضرراً على حياة الناس وكرامتهم من نقص الدخل. وبالنظر إلى الفقر بأبعاده المتعددة فإن عدد الفقراء يكون حوالي 1300 مليون شخص، وذلك وفق مؤشرات الحرمان من التعليم والرعاية الصحية والأولية وعدد وفيات الأطفال دون سن الخامسة.
وحتى الأسر الميسورة أو الأفضل حالاً فإنها مهددة بالانزلاق إلى الفقر المدقع بمجرد أن يصاب بالمرض أحد أفرادها أو بسبب الأحداث الطبيعية كالأعاصير والفيضانات، وعلى سبيل المثال فإن عشرة ملايين سنوياً في الشرق الأوسط ينضمون إلى الفقراء بسبب الإنفاق على أمراض تطرأ وتضطرهم إلى إنفاق جميع مدخراتهم وبيع ممتلكاتهم من أجل العلاج من المرض.
ومن الواضح أن مكان الولادة يحدد مصير الشخص، فبالنظر إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية ومؤشرات التنمية الإنسانية في أي بلد يستطيع المتابع للشأن العام والتنموي أن يقدر الفرص التي سوف يحصل عليها هذا المولود، كالعمر المتوقع وسنوات التعليم والرعاية الصحية والغذائية، كما فرص العمل والتأهيل المهني والاندماج في التقدم العالمي. هكذا أيضا تزيد اللامساواة حدة وسرعة، وفي الوقت الذي تناضل فيه أمم لتوفير الحد الأدنى من الغذاء والمطاعيم الصحية، يكون في مقدور أطفال آخرين البدء بالتعليم منذ سن الثالثة، وتلقى مهارات الحياة والمعرفة والتواصل مع العالم منذ سن مبكرة، وعندما يكون الفتيان في المجتمعات والدول المتقدمة قادرين على التخرج من الجامعة في سن الخامسة أو السادسة عشرة ويمتلكون مهارات متقدمة في العمل والحياة وقادرين على الحصول عل دخل مرتفع ومستويات معيشة متقدمة؛ يكون أقرانهم في دول ومجتمعات أخرى يقدرون بالكاد على القراءة والكتابة ويعانون سوء التغذية وضعف البنية الجسدية لدرجة العجز عن أداء الأعمال الزراعية والإنشائية التي لا تحتاج إلى مهارات تعليمية متقدمة، ولا أمل يبدو في الأفق أمامهم سوى الهجرة إلى الدول الغنية والقيام بأعمال هامشية ورثة مقابل الاستمرار في البقاء على قيد الحياة.