جل من شهدتهم مسيرة حياتي السياسية والثقافية من المناضلين والأصدقاء الفلسطينيين كانوا من فئة المثقفين المبدعين الأفذاذ. ولو نبشت في ذاكرة ذلك «الزمن الجميل» الذي وهبني صداقاتهم، لانبجس بنزيف من ذكرياتي التي تقودني على الفور نحو كوكبة من المبدعين المناضلين الراحلين يضيق المقام عن ذكرهم جميعاً، ولتذكرت بكل حنين أصدقاء مثل: توفيق زياد، إميل حبيبي، راشد حسين، سميح القاسم، إدوارد سعيد، فدوى طوقان، عبدالرحيم محمود، عبدالكريم الكرمي، ماجد أبو شرار، سميرة عزام، غسان كنفاني، كمال ناصر، أحمد دحبور، مصطفى أبوعلي، ناجي العلي، جمال بدران، إسماعيل شموط، معين بسيسو، محمود طه، صخر أبو نزار، وبالطبع صديقي الأثير محمود درويش الذي وصفه الكاتب المبدع سمير عطا الله قبل شهرين من الآن بـ«شاعر الثورة ومحركها ببندقيته التي لم يطلق منها رصاصة واحدة»! وحال محمود هذا هو حال كثير من المبدعين الذين لم ينتقص «عدم إطلاق الرصاص» من نضاليتهم، مثلما لم ينتقص «إطلاق الرصاص» الذي خاض غماره مثقفون مناضلون آخرون.. من إبداعهم.
لقد كتب العديد من المثقفين والسينمائيين والمصورين والكتاب والصحفيين الفلسطينيين المبدعين بدمهم حينما كانت الرصاصات أو القنابل تسقطهم مضرجين بدمائهم، فكانت مقولة الشهيد المبدع حنا مقبل: «بالدم نكتب لفلسطين»، وذلك عند تأسيس اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين عام 1973، قاصداً أن الاحتلال وحلفاءه يريقون دماء المبدعين الفلسطينيين (والعرب وغيرهم) تحت مظلة اتهامهم بالتحريض «الإرهابي»! ومنذ بداية مسيرة «الكلمة المقاومة» وعلى طريقها، جاءت رصاصات الغدر تغتال بين الحين والآخر مبدعاً هنا ومبدعاً هناك، لإسكات أصواتهم المدافعة عن الحق الفلسطيني.
لقد ارتبط مفهوم المقاومة في الذهنية العربية والفلسطينية، بمواجهة الاحتلال بالبندقية. كما حضر مفهوم المقاومة في الأدب والفلسفة والأديان والأساطير، من خلال تمجيد بطولاتها وإشاعة ثقافتها وانتصاراتها. لكننا اليوم نؤكد أيضاً على التجليات الإنسانية للمقاومة المتجسدة في الدفاع عن كل ما هو نبيل وجميل وإنساني. فالمحبة في زمن التعصب مقاومة ضد الكراهية، وتعزيز ثقافة المساواة والمواطَنة مقاومة ضد التمييز، وتفكيك ثقافة التكفير مقاومة ضد التخلف والظلامية.. وكذلك استمرار المعلم الفلسطيني في تدريس طلابه على أطلال مدرسته المدمرة مقاومة، وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل (BDS) مقاومة.
وإذا كان المبدعون المناضلون من الفلسطينيين، ومعهم قافلة عظيمة من المبدعين العرب، قد قدموا طلائع منهم على مذبح مقاومة المحتل، فإن قوافل أخرى مازالت تنتظر على درب معمودية حقوق فلسطين، وستستمر مهما تكالبت الظروف على هذه القضية.. ومن هؤلاء محمد بكري، المبدع والمخرج والممثل الفلسطيني العنيد في الحق بقلبه وعقله، مخرج وصانع فيلم «جنين –جنين». لقد أبدع بكري في عرض شهادات حية لسكان مخيم جنين، موضحاً ما حل به من قتل ودمار خلال العدوان الذي نفذه جيش الاحتلال الإسرائيلي في أبريل 2002. يومئذ، كرّس بكري نفسه في قافلة مَن باتوا يمثلون الفدائية الثقافية الفنية المبدعة، بأرق وأرقى المعاني. فهو يعمل ويضحي من أجل قضية وطن يسعى لأن يقيم فيه العدالة الاجتماعية، ومحاربة العدوانية الإسرائيلية. إنه فدائي ثقافي ملتزم بتحقيق مشروع وطني، بل كما قال عن نفسه أنه لا يكتفي بثوب العروبة وفلسطين بل يتعداهما إلى العالم أجمع. لذلك تخافه دولة الاحتلال وتحسب ألف حساب لأدواته الفنية الفتاكة. نعم، تخاف إسرائيل من محمد بكري، وما تزال تلاحقه بسبب «جنين -جنين» بعد 18 عاماً على إنتاجه. وهو اليوم، يواجه في حكايته النضالية أنواعاً مختلفة من التنكيل، فقط لأنه عبّر عن آلامه بعد المجزرة الإسرائيلية من خلال فيلمه الوثائقي «جنين -جنين»، وبذلك بات واضحاً أن صرخاته الفنية كانت مؤرقة وموجعة لسلطات الاحتلال، فخاضت ضده معركة قضائية، ونصبت له محاكمة سياسية لا تزال مستمرة، رغم اندراجها تحت بند انتهاك حرية التعبير عن الرأي، وتقييد الأعمال الفنية. وما هذا التنكيل سوى واحد من تجليات الديمقراطية الإسرائيلية ضد مبدع فلسطيني كل جريمته أنه كشف سينمائياً عن واحدة من جرائم الاحتلال.. وما أكثرها!