نتذكر في عهد الرئيس أوباما، وفي سابقة من نوعها، أن القضاء الأميركي بادر بمحاكمة خمسة جنود صينيين بسبب ما قيل إنه قرصنة إلكترونية وتجسس اقتصادي. والجنود الخمسة، كما جاء في تقارير أميركية، أعضاء في «الوحدة 61398 للجهاز الثالث لجيش التحرير الوطني»، وقد اتهموا بالوصول إلى أسرار تجارية لشركات أميركية عملاقة تعمل في مجال الطاقة النووية والمتجددة، وذلك بين عامي 2006 و2014. وكان الخروج العلني لكبار المسؤولين الأميركيين وتدخل القضاء الأميركي دليلا على مستوى التذمر الكبير والخطر الواضح لحرب جديدة لم تعهدها البشرية من قبل، لاسيما بين الدول الكبرى.
والتجسس مسألة قديمة قدم الدبلوماسية، لكنه هذه المرة يستعمل أدوات وتقنيات حديثة يصعب احتواؤها، وتقع في مواطن لا تخطر على بال أحد. فوجود الوحدة المذكورة كان من اكتشاف الشركة الأميركية للأمن «مانديانت» ‏Mandiant، الذراع الاستشارية للحكومة الأميركية، والتي قيل إنها استطاعت -بعد مجهود مضن- اكتشاف تواجد الوحدة في مبنى من اثني عشر طابقاً، يعمل فيه آلاف الخبراء المدربين. وأوضحت «مانديانت» أن الاقتصاد الأميركي يفقد ما بين 24 و120 مليار دولار سنوياً بسبب القرصنة الإلكترونية الأجنبية.
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة هي الضحية دائماً، فلها هي أيضاً من القوة التقنية والملَكة والسبق الإلكتروني ما يمكنها من التجسس على العالم، بصمت ودراية، مستعملةً أماكن يصعب التنبؤ بها، وقد كشف عن بعضها عميل المخابرات الأميركي الهارب إدوارد سنودن، إذ تنصتت أميركا شهرياً على سبعين مليون مكالمة في فرنسا، وستين مليون مكالمة في إسبانيا.. مستعملة السفارة البريطانية في ألمانيا، مع العلم بأن للولايات المتحدة سفارة هناك وسفارتين في باريس ومدريد.
ومنذ أيام حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من ألمانيا حيث حضر مؤتمر ميونيخ للأمن، من محاولة زعزعة استقرار «الديمقراطيات الغربية عن طريق التلاعب بشبكات التواصل الاجتماعي أو عمليات معلوماتية». وأضاف أنها «ستفعل ذلك، إما عبر أطراف فاعلة خاصة أو عبر خدمات مباشرة، أو عبر وكلاء».
ويوحي كلام الرئيس الفرنسي بأن البيئة الدولية المعاصرة أضحت أكثر ضبابية وأشد تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى، ويكفي الرجوع إلى الكتاب القيم الذي ألّفه منظر العلاقات الدولية وصاحب الكتابات المعتمدة الفرنسي «برتران بادي» ‏لتمثل ذلك، إذ طور نظرية اختزلها في كلمتين «وهن القوة»، واعتماداً على نظريات لإيميل دوركاييم وهيغو كروتيوس أكد أن القوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة، حيث لم تعد بعض الدول القوية (كالولايات المتحدة) تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي والثقافي كما كانت في السابق، ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية.
وتظهر روسيا في ظل هذه البيئة الدولية المعقدة على شكل قوة تثق في نفسها وتستعمل أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل، وتؤثر بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية، فالاستراتيجيون الروس يعون جيداً مفهوم البيئة الاستراتيجية التي يُشار إليها في منشورات كلية الحرب الأميركية على أنها «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الاستراتيجي هنا هو ممارسة التحليل للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض.