ليس أدل على ارتباك سياسات أردوغان من طلبه الأخير عقد جلسة طارئة لمجلس حلف شمال الأطلنطي بموجب المادة4 من معاهدة تأسيس الحلف، وهي المرة السادسة في تاريخ الحلف منذ تأسيسه قبل قرابة ثلاثة أرباع القرن التي تطلب فيها دولة عضو تفعيل هذه المادة التي تنص على إجراء مشاورات في حال شعرت دولة عضو أن سلامتها الإقليمية أو استقلالها السياسي أو أمنها معرض للخطر، ووجه الارتباك في هذا الطلب أن حلف الأطلنطي هو ذاته الذي استخف به أردوغان عندما أقدم على شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S400 الأمر الذي سبب توتراً شديداً مع الولايات المتحدة امتد إلى قمة الحلف الأخيرة في «واتفورد» في ديسمبر الماضي، وهي القمة ذاتها التي تلاسن فيها مع الرئيس الفرنسي بطريقة بالغة الخروج على مقتضيات اللياقة عندما ذكر أردوغان أن ماكرون بحاجة إلى فحص دماغي كرد فعل لتصريحات الأخير بأن حلف الأطلنطي يعاني من حالة موت سريري وأحد أهم أسبابه العمليات التي كانت تقوم بها تركيا في سوريا دون تنسيق مع الحلف، وهي أيضاً القمة نفسها التي هدد فيها بعرقلة خطط الحلف الدفاعية في البلطيق، وبدا مع هذه التطورات إن أردوغان يغير وجهته دون أن يأبه بالحلف، وبعد هذا يعود ليطالبه بأن يهب لنجدته في سوريا بعد واقعة مقتل 33 جندياً تركياً في هجمات من الجيش السوري على مواقع تركية داخل الأراضي السورية.
لم يتوقع أحد أن يستجيب الحلف لطلب أردوغان الدعم في المواجهات التي يخوضها في سوريا لسبب بسيط للغاية، وهو أن هذه المواجهات لا علاقة لها بالحلف بمعنى أنها تعكس طموحات أردوغان الشخصية، دون أن تكون لها أدنى صلة بالحلف، ولقد حذر وزير خارجية لوكسمبورج على سبيل المثال في مؤتمر صحفي مع نظيره الروسي من أن يوافق مجلس الحلف على طلب من تركيا بتفعيل المادة الخامسة الخاصة بالدفاع الجماعي لسبب بسيط، وهو أن عملية أنقرة في إدلب لم يوافق عليها الحلف، وشدد على أن حلف شمال الأطلسي لا يتعين عليه حل هذه المشكلة وإنما الأمم المتحدة هي التي يجب أن تتصدى لهذه المهمة، وبالفعل اجتمع مجلس الحلف يوم الجمعة الماضي واكتفى بإدانة استمرار موسكو ودمشق في التصعيد بإدلب، وأعرب عن تضامنه مع أنقرة ودعمه لها لكن دون أن يقدم تعهدات بأي إجراءات جديدة ملموسة للدفاع عن القوات التركية، وذكر الأمين العام للحلف أن الحلفاء وافقوا على الإجراءات القائمة حالياً لتعزيز قدرات تركيا الدفاعية الجوية (وتتمثل في خدمات المراقبة الجوية بوساطة نظام الرادار المحمول جواً)، لكنه لم يلمح إلى أي خطوات جديدة تتجاوز التعهد بشكل عام بالبحث فيما يمكن القيام به أكثر من ذلك، بل لقد وصف الموقف الناجم عن المواجهات الحالية في إدلب بأنه خطير وطالب في تغريدة على صفحته في تويتر بعدم التصعيد وليس بنصرة الحليف، والواقع أن هذا التضامن المعنوي هو أقصى ما يمكن أن تسمح به الظروف الموضوعية بالنظر إلى سياسات أردوغان الجامحة خاصة وأنها تهدد بالدخول في مواجهة مع روسيا، ولو على نحو غير مباشر. وآخر ما يمكن توقعه أن يورط حلف الأطلنطي نفسه في مثل هذه المواجهة بسبب سياسات طائشة لم يكن له يد فيها.
يدفع الرئيس التركي حالياً الثمن الباهظ لحساباته غير الرشيدة، وأول شروط الرشادة في لعبة كلعبة تحقيق النفوذ والسيطرة والهيمنة أن تدرك حدود قوتك، وهو ما لم يفعله أردوغان غروراً أو جهلاً بالتاريخ، ويبدو أنه تصور أن بمقدوره أن يحقق أهدافه في سوريا حتى لو تناقضت مع المصالح الروسية وها هو يدفع ثمن هذا الخطأ في الحسابات لأن روسيا لا يمكن أن تسلم له بما يهدر استثمارها العسكري والسياسي في سوريا لأكثر من خمس سنين، ويُضاف هذا الخطأ إلى خطأ آخر يخص حساباته في ليبيا، فقد هدد بإرسال قواته إلى ليبيا، وعندما تبين رد الفعل العربي والأوروبي القوي اكتفى بإرسال مرتزقة وتقديم خدمات المشورة والتدريب، وهو يواجه الآن مأزقاً حقيقياً مع امتداد جبهاته بين سوريا والعراق وليبيا وتفكك تحالفه مع الرئيس الروسي، وفي انتظار المزيد طالما أن عدم الرشادة هو سيد الموقف.