رغم النمو الاقتصادي العالمي الهش في العام الماضي، فإنه كان هناك بعض التفاؤل بإمكانية التحسن، وبالأخص بعد أن تجاوز أكبر اقتصادين عالميين مع اقتراب نهاية 2019 خطر حرب تجارية مدمرة، حيث تم الاتفاق بين الولايات المتحدة والصين على حل معظم الخلافات التجارية، إلا أن كل ذلك تغير جذرياً مع الشهر الأخير من العام بعد انتشار فيروس كورونا في الصين، ومن ثم انتقاله لبقية البلدان.
ذلك يعني إعادة النظر في كل التوقعات والتحليلات الاقتصادية السابقة الخاصة بالعام الجاري، وهو ما يجري الآن بصورة فعلية من قبل المنظمات الدولية والمؤسسات الاقتصادية والمالية والائتمانية الكبرى، فالاقتصاد العالمي انكمش بشكل حاد وفي فترة زمنية قصيرة جداً، مما دفع وكالة «موديز» للائتمان للقول: «لقد كان افتراضنا السابق بأنه سيتم احتواء الفيروس في الصين متفائلاً للغاية، لكنه يمكن القول الآن أن الوباء سيؤدي إلى ركود عالمي».
علامات هذا الركود يمكننا رصدها من خلال العديد من المؤشرات التي حدثت مؤخراً وبسرعة فائقة، حيث فقدت أسواق المال في العالم 5 تريليونات دولار في غضون أسبوع واحد فقط، وانخفض مؤشري «داو جونز» و«ناسداك» خلال الأسبوع الماضي بنسبة 14% و12% على التوالي، كما انخفض مؤشر «فايننشال تايمز» بنسبة 13% وتدنت أنشطة الشركات المدرجة، مما سيؤثر على أدائها طوال العام. بالتأكيد جزء من هذا التراجع الحاد حدث بسبب المضاربات، إلا أن مخاوف المستثمرين ولجوؤهم للبدائل الآمنة يشكل الجزء الآخر من هذه الصورة السوداوية، فانخفاض حركة المبيعات كبد شركة «أمازون» على سبيل المثال 105 مليارات دولار من قيمتها السوقية، أما توقف مصانع «آبل» في الصين وتدهور حجم الشحنات التجارية منها، فقد كلف الشركة 173 مليار من قيمتها.
قطاع الطيران والنقل الجوي أصيب بمقتل، حيث انخفضت حركة النقل الجوي في كافة مطارات العالم، ففي الصين توقفت تقريباً الرحلات الجوية والتي انخفضت بنسبة 87% لتقتصر على ألفي رحلة يومية فقط، إذ يشمل ذلك المسافرين والشحن الجوي على حد سواء، وهو ما سيؤثر على اقتصادات العديد من الدول المركزية في هذا المجال، كسنغافورة وهونج كونج.
وإذا أضيف إلى ذلك القيود التي فرضت على النقل البحري والبري من قبل معظم الدول، فإن القطاع التجاري سيكون من بين أشد القطاعات تضرراً من انتشار فيروس كورونا، وذلك إلى جانب القطاع السياحي المرتبط بحركة التنقل والذي يعاني بدوره بشدة بالغة، بل إن حركة تنقل المسافرين شبه متوقفة في بعض المناطق السياحية وكبد شركات الطيران حتى الآن خسائر بحجم 25 مليار دولار، مما سيقلل من قدرتها على الوفاء بالتزاماتها وربما إلى إفلاس البعض منها، أي تلك التي تعاني أصلاً من صعوبات مالية.
أخيراً، فإن من بين الأشد تأثراً تأتي أسعار النفط والغاز، فقد انخفض سعر برميل «برنت» بنسبة كبيرة بلغت 23% في غضون أسبوعين ليصل إلى 50 دولاراً، وهو ما يعد انتكاسة للاقتصادات النفطية التي بالكاد استطاعت التقاط أنفاسها العام الماضي بعد ثلاث سنوات من المعاناة؛ من جراء انهيار الأسعار في عام 2014.
شكلت هذه التقلبات السريعة فرصة مواتية أيضاً للمضاربين، وبالأخص للملاذات الآمنة، كالذهب الذي ارتفع من 1460 دولاراً للأونصة إلى 1665 قبل أن ينخفض نهاية الأسبوع إلى 1585 دولاراً للأونصة، مما حقق أرباحاً كبيرة لكبار المضاربين قابلها خسائر مماثلة للكثير من المستثمرين.
ومع أن التعامل مع هذه التداعيات صعب للغاية، خصوصاً أن هذا الفيروس لا زال مستمراً في الانتشار السريع، مما سيؤدي إلى المزيد من الإجراءات والقيود، وبالتالي التدهور لاقتصادات الدول، إلا أن سرعة إعادة النظر في البرامج السابقة وإعادة الهيكلة المالية مؤقتاً -حتى تستقر الأمور- ربما تساهم في التقليل من هذه التداعيات الخطيرة على اقتصادات مختلف الدول، علماً بأن الأسواق ارتدت مرتفعة بداية الأسبوع الجاري، مما يعني أن هذه الأسواق ستشهد مضاربات وتذبذبات قوية في الفترة القادمة.
*خبير ومستشار اقتصادي