هل واجهت حُساداً في مسيرتك العلمية والعملية؟ هل استشعرت بأنك الأسمى في مجال عملك وكادوا لك حُسّادك؟ وما هي الطريقة المثلى في التعامل معهم؟ لك في الطائر المغرد عبرة، إنه محمد بن نافع أبو الحسن، أحد موالي الخليفة محمد المهدي، أهداه إلى نديمه إسحاق الموصلي -الموسيقار الأول لخلفاء العباسيين- تعلم أبو الحسن على يد أستاذه، وتمكن من مهارات الفنون كالعزف والغناء، ولسحر جمال صوته وعذوبته أطلق عليه اسم «زرياب» وهو الطائر الأسود ذو الصوت الجميل، وتفنن في صنعة عودٍ له، وابتكر وتراً خامساً، وبجانب حياته الفنية، كان يقضي وقتاً في بيت الحكمة، ينهل فيه من علوم العلماء، ومنهم الكسائي -وهو عالم الفقه وقواعد النحو -وابن الفراء عالم اللغة، ويوحنا ابن ماسويه طبيب ومترجم الخلفاء، مما أكسبته معرفة وثقافة واسعة، أصبح شاعراً متحدثاً لبقاً ذا ثقافة واسعة، وبعد وفاة الخليفة المهدي حكم ابنه هارون الرشيد، واستدعى إسحاق الموصلي بأن يعرض عليه أحد تلاميذه ممن يجيد فنون الطرب بحلية جديدة، فاختار «زرياب»، كان الموعد التاريخي بين ملك العرب وملك الطرب، فقال الخليفة: ماذا تعرف يا فتى عن فنون الغناء والعزف؟ فقال زرياب: أُحسنُ منه ما يُحسنُ الناسُ، وأكثرُ ما أحسنهُ لا يحسنونهُ، ولكنه لا يُحسنُ إلا عندك ولا يدخر إلا لك، فإذا أذنت لتغنيت لك ما لم تسمعه أذن قبلك، حتى طرب الخليفة له، وتنبأ له بمستقبل واعد.
امتلأ قلب إسحاق الموصلي حسداً على تلميذه، خوفاً من أن يأخذ منزلته الرفيعة عند خلفاء العباسيين، فقال له: إما أن تغادر أرض العراق، أو تختار البقاء وإني والله لقاتلك، توفي هارون الرشيد في طريقه للقضاء على ثورة رافع ابن الليث، عمت الفوضى أرجاء الخلافة بسبب الحرب التي دارت بين حزبي الأمين والمأمون، والتي انتهت بمقتل الأمين، أثناء تلك العاصفة لم يسلم «زرياب» من رسائل التهديد والتحرش والمضايقات من أتباع الموصلي لإجباره على الرحيل، لذا لاذ بالصمت وأخذ بنصيحته أحد أصدقائه بالرحيل إلى القيروان، وكانت آنذاك تحت حكم الأغالبة، استقبله السلطان زياد الله بن الأغلب بأفضل مما يكون، وغنى حتى طرب له وجعله نديمه، فوجد غيرة وحسد إسحاق الموصلي تطارده داخل وخارج القصر، كانت قيروان مدينة محافظة، بها الكثير من السلفيين أطلقوا على حيهم السكني اسم «الزهاد»، والحي الذي اهتم بالفنون، والذي يقطن فيه زرياب بحي «الزريابيين»، وأرجفوا بأنه جاسوس غرضه نقل الأخبار لبلاط الخليفة في بغداد، وشنوا عليه حملة بحرمة الغناء والعزف، بحجة أنها تَصرفُ عن الجهاد في سبيل الله! وأوغروا صدر السلطان عليه، واستدعاه قائلاً: إنني يا ابن السوداء أمنحك ثلاث ليالٍ في قيروان، فرد عليه بشعر عنترة، وقال: فإن تلك أمي غرابية من أبناء حام بها عبتني، فإني لطيف ببيضِ الظبا وسمر العوالي إذا جئتني، وأدرك بأن وجوده في قيروان ربما يهدد حياته من جديد، فكانت المحطة الأولى والثانية حاسدة وحاقدة لمهاراته الفنية، ولم يُسمح له بأن يطير في سماء الموسيقى، وتجهز للرحيل من قيروان إلى قرطبة، فكتب رسالة مطولة للخليفة الحَكم الأول ابن هشام في قرطبة، يشرح فيها مهاراته الفنية، وشد الرحال إلى قرطبة، وفي أثناء مسيرته وصلت أخبار بوفاة الخليفة الحكم الأول؟ فهل سيسلم «زرياب» هذه المرة من حساده في قصر الخليفة؟ ولماذا أصر على دخول قصور الخلفاء؟ هل لأنه قدّر موهبته بأنها فذة، ولا تكون إلا في قصور الخلفاء وليس في الحانات والطرقات؟ هل سيدفن الآخرون موهبتك بالحقد والحسد، أو ستكون طائراً من نوع آخر، تثبت فيها براعتك وقدراتك كـ«زرياب»؟ فمن يثبت براعته ينتصر على حساده ويهزم أحقادهم.
*أكاديمية وكاتبة وعازفة.