وقع المسلمون المعاصرون في ثلاث مشكلات أو أوهام حيال التنوير، كاصطلاح ومسار بات ضرورياً، بما أعاق ولادته، أو جعلها ولادة مبتسرة في بعض الأحيان، ألا وهي:
1 مزاعم أن التنوير ابن بيئة اجتماعية وسياق تاريخي مغاير، وبالتالي هو بضاعة غيرنا ولا تلزمنا، لأن استيرادها واستهلاكها مضر بنا ضرراً بالغاً، ومن ثم فإن الضروري تجاهلها، والأفضل هو التشكيك فيها ودحضها، وقد روّج هؤلاء كثيراً لمقولة فاسدة، جعلت كثيرين يحسبون أن التنوير نقيض للإيمان.
2 مزاعم أن خروجنا من مأزقنا ليس بالتنوير، الذي يعني في مقصده التقدم إلى الأمام في التاريخ، إنما بالعودة إلى الماضي، من خلال استلهام تجربته، والتمسك بمقولات وتصرفات ما عاشوا فيه، باعتبارهم «الجيل الفريد» الذي تأسس الإسلام على أكتافه، وفهم معانيه ومراميه، وعمل على نصرته.
3 مزاعم حول وجوب أن يكون المتاح لنا من تغيير، إن دعت الضرورة الملحة إلى هذا، في حدود مقدرة بأوزان تتسم بالثبات والرسوخ، إذ لا يمكن القفز على الموروث وما يحويه من معارف وقيم واتجاهات، وبالتالي يصبح الحيز المتاح للتغيير مشدوداً بحبال غليظة إلى «النقل»، وليس إلى «العقل» في الغالب الأعم.
بالقطع يحوي «القرآن الكريم» آيات عديدة لا تجافي التنوير، بل تطلبه، وتفرضه، وتلح عليه، حين تنادي بضرورة إعمال العقل، والتدبر في أحوال الناس وموجودات الطبيعة، والإيمان بأن التطور من سنن الحياة، وإعلاء حرية التفكير والتعبير والتدبير، وإنهاء أي واسطة بين العبد وربه، بما يعني تحرير الإرادة الإنسانية في العبادة والإفادة.
التنوير ضرورة الآن، ليس لنا فقط، إنما للبشرية جمعاء، بما فيها الغرب الذي نتحدث باستفاضة عن تنويره، ولذا يقول الناقد والمفكر البلغاري الكبير تزفيتان تودوروف، تحت عنوان «لماذا نحن دوماً في حاجة إلى فكر الأنوار»: «تبقى مبادئ الأنوار الكبرى راهنية أكثر من أي وقت مضى، فمقدورنا على سبيل المثال أن نعود إليها للدفاع عن نظرية التطور، أو إدانة التعذيب الذي تمارس باسم دواعي المصلحة العليا، وبإمكاننا التسلح به لنشجب وندين الحروب الحالية التي تزعم نشر الحرية والديمقراطية، ولنحترم تعدد الثقافات والسياسات، واعتبار النجاح الاقتصادي وسيلة لا غاية».
إن التنوير هو المطلوب حقاً، وليس فقط ما يثار حالياً عن «تجديد الخطاب الديني»، إذ إن ذلك يشكل الحد الأدنى الذي لا أتصور أن بمُكنته أن يخرج المسلمون من المأزق الذي يعيشونه الآن، بعد أن حوّل بعض المتطرفين منهم الدين من مصدر للسعادة إلى سبب للشقاء.
فالاكتفاء بتجديد الخطاب الديني لن ينتهي إلى شيء نشعر معه ونلمس فيه تقدماً إلى الأمام، لأن الذي سيتصدى لعملية التجديد تلك، أو من يراد له أن يفعل هذا الآن، هي مؤسسات تنتج الخطاب الحالي على ما فيه من عوار شديد، وتلك المؤسسات ستدافع عما تعرفه، ولذا لا يمكنها أن تلبي ما يطلب في سبيل التقدم إلى الأمام، سواء بالنسبة للرؤية الدينية، أو بتفاعلات الدين من المجالات الأخرى.
ولا يكفي أيضاً الحديث عن «تجديد الفقه»، واعتبار هذا غاية ما نصبو إليه، وأنه سيؤدي بنا إلى وضع ديني مختلف، فهذا الحد من التفكير والتدبير لن يؤدي قطعاً إلى تجديد، نحن في أمس الحاجة إليه، إنما سيطلي العصر القديم بطلاءات فاقعة الألوان، يتخيلها الغافلون بناءً جديداً.