لا بد أولاً من تثبيت هذا التاريخ للعودة إليه لاحقاً: منتصف ديسمبر، العام الماضي 2019. المكان كوالالمبور - ماليزيا: فبعد أن حكم مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق -(عمره الآن 94 عاماً). خلال الفترة من 1981 إلى 2003، وتخللها خروج من المنصب لمدة 15 عاماً ليعود مجدداً إلى المنصب في عام 2015.. بعد هذه التجربة الناجحة والمتميزة التي امتدت لعقود في السياسة والاقتصاد وعلاقاته وتحالفاته، والتفاف مواطنيه حول أهدافه، يضع اليوم مهاتير لنفسه نهاية حزينة بعدما حقق الكثير لبلده ماليزيا، ونقلها إلى صفوف البلدان المتقدمة في أكثر من مجال ومستوى. لقد بدأ فجأة يخسر ثقة المحيطين به من الحلفاء السياسيين الذين انقلبوا عليه، وأطاحوا به من رئاسة التحالف الحاكم، الأمر الذي دفعه إلى الاستقالة كخيار أفضل من الإقالة. ما عمّق حزن الرجل بسبب ما جناه على نفسه وتجربته وحلفائه الداخليين وعلاقاته الخارجية وحزبه ومواطنيه، بل ما زاد في أزمة ضميره ربما، إعلان القصر الوطني الماليزي، وبسرعة غير معهودة، تعيين محيي الدين ياسين - الذي كان معارضاً له - رئيساً للوزراء بدلاً منه، وذلك (من أجل خير الشعب والأمة الماليزية) كما ورد في الإعلان الملكي. وحزبه الذي يرأسه، سكان ماليزيا الأصليون المتحديون (بيرساتو) قام هو الآخر بإقالته كرئيس له. هذا التبديد المؤلم لإرث سياسي طويل ونجاحات مبهرة حققها مهاتير لماليزيا طوال العقود الفائتة، وأحدث فيها فرقاً بين ماليزيا وبين بقية البلدان في الإقليم،.. تبديد وراءه مشكلات، وكارثة ماحقة. من المشكلات: دعوته لحركة «حماس» الإخونجية وعدد من كُتاب وشخصيات حركية تابعة لفروع جماعة «الإخوان» المصنفة تنظيماً إرهابياً في السعودية والإمارات ومصر، وتمويلاتها تحت الرقابة المشدّدة في الغرب، في محاولة بدت أنها عملية تعويم لـ(الجماعة).
ومن المشكلات أيضاً خصومته الشخصيّة، التي تبين لاحقاً دافعها السياسي، مع نائبه وذراعه اليمنى في الحكم، أنور إبراهيم، التي استُخدمت فيها ملفات أخلاقية، لتسيطر توتراتها على الحياة السياسية في ماليزيا لمدة 20 عاماً متتالية، كاد أن يسجن فيها أنور إبراهيم لو لا التدخّل الملكي بمنحه عفواً عاماً فورياً ما حال دون مصادرة حريته. أما الكارثة الماحقة: فكانت بوصول الرئيس التركي طيب رجب أردوغان إلى كوالالمبور في منتصف ديسمبر الماضي، حاملاً معه ملف السعي إلى تأسيس منظمة إسلامية تكون بديلاً عن منظمة التعاون الإسلامي، وتقوم على الأعضاء المؤسسين تركيا وقطر وإيران وماليزيا، وهذا المقترح - أو الأجندة الفخ - الذي ربما اقتنع به مهاتير وقتها، أو لم يكن ذكياً بما يكفي حينما أُمليَّ عليه ولم تسعفه خبرته الطويلة، وضعه هذا المسعى في تناقض صارخ مع مشاعر الماليزيين الذين تنبهوا إلى مصالح الدولة العليا. حيث وجد الشعب الماليزي في أعمال مهاتير الأخيرة، ضرراً بالغاً لمصالحه وعلاقاته التقليدية الراسخة، بل استشعر أن توجهات كهذه التي قام مهاتير بها، ستجعله معزولاً عن محيطه الإسلامي والسياسي خصوصاً في المنطقة العربية. وكان من الطبيعي أن يعلم الشعب الماليزي أن الرئيس التركي ما أن يحلّ في مكان إلاّ ويخلّف فيه مشكلة عويصة، وكنّا قد كتبنا عما تركه في كل زياراته واتفاقاته بدءاً من الدول العربية، كليبيا والمغرب وتونس والجزائر وسوريا والعراق، وليس انتهاءً بقبرص وبعض بلدان الاتحاد الأوروبي، التي ستنعكس بالنهاية على الشعب التركي.. وما زال حبل مشكلاته الرئيس على الجرار.
*إعلامي وكاتب صحفي