عندما وصل جورباتشوف إلى قمة السلطة في الاتحاد السوفييتي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أحدث تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية السوفييتية انطلاقاً من المبدأ الشهير الذي رفعه: «عالم واحد أو لا عالم»، وكان يقصد أن العالم يواجه تحديات مشتركة تقتضي مواجهتها إعادة تكييف العلاقات الدولية من علاقات قائمة على الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي وفقاً لمباراة صفرية لا تعرف إلا فائزاً ومهزوماً، إلى علاقات تعاونية تقوم على مباراة ذات حصيلة يكسب طرفاها معاً. وضرب جورباتشوف أمثلة عديدة على تلك التحديات، منها خطر نشوب حرب نووية بالخطأ، والكوارث الطبيعية والأوبئة العالمية وغيرها.
وفي حينه انتقد خصوم جورباتشوف هذه الأفكار متهمينه بأنها مجرد ذرائع لتبرير تخليه عن التجربة السوفييتية والتقارب مع المعسكر الرأسمالي، وقد حقق جورباتشوف باتباعه هذه السياسة إنجازات حقيقية في مجالات تتصل بتخفيف التوتر الدولي وتسوية الصراعات المحتدمة آنذاك، غير أن تجربته انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي ذاته، وها قد مر أكثر من ثلاثة عقود على إخفاق التجربة. غير أن التطورات الأخيرة المتعلقة بانتشار فيروس كورونا على نحو وبائي من الصين إلى جميع أنحاء العالم، وإن بدرجات متفاوتة، أثبتت صحة الشعار الذي رفعه جورباتشوف. لكن المفارقة أن ذلك الشعار قُصِد به أن يكون أساساً لتعاون دولي في مواجهة الأخطار المشتركة التي تواجه العالم، فإذا به يكون مصدراً لتوترات جديدة في العلاقات الدولية. وأسوق مثالين في هذا الصدد يرتبط أولهما بالملاسنات الصينية الأميركية الأخيرة بخصوص مسؤولية الولايات المتحدة عن جلب الفيروس إلى الصين، والثاني بقرار ترامب الأخير بوقف السفر بين الولايات المتحدة وأوربا باستثناء بريطانيا، وهو قرار أثار استياء الاتحاد الأوروبي.
أما الملاسنات الصينية الأميركية فبدأت بتصريح من المتحدث باسم الحكومة الصينية الخميس الماضي مفاده أن الجيش الأميركي ربما جلب فيروس كورونا إلى مدينة ووهان الأكثر تضرراً. ومعلوم أن وفداً كبيراً من الجيش الأميركي كان قد شارك في مهرجان للألعاب العسكرية هناك قبيل انتشار الفيروس. وقد استدعت الخارجية الأميركية السفير الصيني في واشنطن عقب هذا التصريح، وقال مسؤول فيها إن كبير الدبلوماسيين الأميركيين لشئون شرق آسيا وجه خطاباً «شديد اللهجة» للسفير.
وكانت الصين قد اتهمت الولايات المتحدة بتعمد نشر الذعر بسبب كورونا على نحو يتسم بالمبالغة، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية إن أميركا «كانت أول دولة تقترح سحباً جزئياً لموظفي سفارتها وأول دولة تفرض حظراً على سفر الأشخاص من الصين».
وهكذا فقد تواتر حديث «المؤامرة» منذ فترة وطال الجميع، فمن الاتهامات الصينية السابقة إلى رواية مفادها أن باحثين كنديين باعا الفيروس للصين لاستخدامه كسلاح بيولوجي، إلى ثانية تعتبر أن الفيروس أُنتج في مختبر صيني للأسلحة البيولوجية.. وغير ذلك من الفرضيات!
لكن مجلة «فورين بوليسي» الأميركية دحضت كل هذه الدعاوي مؤكدةً أننا إزاء تحول كبير في النشاط الفيروسي على كوكب الأرض، وأنه لا دليل على كونه من صنع البشر، وأنه بدلاً من أن يؤدي الخطر المشترك إلى تعاون دولي لمواجهته تسبب في إثارة توترات بين قوى كبرى.
واكتملت الدائرة بقرار الرئيس الأميركي الأربعاء الماضي تعليق جميع الرحلات من أوروبا للولايات المتحدة ثلاثين يوماً لاحتواء انتشار الوباء، مع استثناء بريطانيا. وقد رفض الاتحاد الأوروبي القرار وصدر بيان عن مفوضيته يؤكد أن تفشي الفيروس «أزمة عالمية لا تقتصر على قارة بعينها، وتتطلب التعاون وليس العمل الانفرادي». ومما زاد استياء الاتحاد أن القرار صدر دون تشاور وأنه استثنى بريطانيا في البداية، دون سبب مقنع. وهكذا يستمر نموذج الخلافات في وقت تجد البشرية نفسها أحوج ما تكون إلى التعاون.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة