هل يجري توظيف وباء كورونا أكثر مما يقتضي المرض، أو أكثر مما تحتاج الدول والمؤسسات والمجتمعات للمواجهة؟ ثمة تحولات واتجاهات جديدة تبدو منطقية ومتوقعة، ويرجح أن العالم بعد كورونا لن يعود إلى ما كان عليه قبل الوباء، لكن ربما يجري أيضاً في ظل صدمة الوباء اتخاذ سياسات وتدابير جديدة، لم يكن سهلاً تمريرها من قبل.
فإذا نجحت تراتيب العمل والتعليم والتسويق من بعد، ومن غير حاجة إلى مبانٍ ومكاتب للعمل والتعليم والبيع والشراء، فإن العالم سيمضي ويواصل هذه الحالة، التي ابتدأت طارئة أو بديلاً، ويتحول إلى تعليم بلا فصول دراسية، وسيكون للمدارس والمعلمين دور جديد ومختلف، وستكون المصانع والمؤسسات من غير عاملين متواجدين في المباني والمكاتب إلا في نطاق محدود، هكذا سوف تتغير الأعمال والعقود والأجور، وبالطبع سوف تصعد الروبوتات (والفردية أيضاً)، وتتولى كثيراً من الأعمال التي كان يقوم بها البشر، وهو اتجاه تفضله الشركات بالطبع، وكانت تسعى إليه بكل ما تملك من قوة، وقد أصبح بفعل الوباء ضرورة، وتنشأ بطبيعة الحال، وتترسخ اتجاهات وأعمال جديدة، وتختفي أعمال ومؤسسات أو تتغير تغيراً كبيراً، ولا يتوقع أن تعود بعد انحسار الوباء.
وقد تعرضت عمليات السفر إلى ضربة قاصمة، ستؤثر في طبيعة واتجاهات السياحة وزيارة الأماكن الدينية، بل وربما يتغير المعنى للزيارات الدينية في جميع الأديان والمذاهب، وهو اتجاه ستقاومه بالطبع المؤسسات الدينية ومؤسسات السياحة والسفر، لكن وكما نشأت وتوسعت وتطورت عمليات السياحة، استجابة لاتجاهات ثقافية ودينية جديدة شجعها تطور وسائل النقل، فإن تطور وسائل الاتصال تغير في طبيعة ووجهات السياحة والزيارة، لقد كان الحج قبل تطور وسائل النقل عمليات محدودة مكلفة ومرهقة، ولم تكن رحلة ابن بطوطة وابن جبير على سبيل المثال سوى رحلة للحج، يقوم بها في هذه الأيام ملايين الناس، ويتذكر جيلي أن الذهاب لتأدية العمرة في الأردن، وربما في جميع الدول العربية والإسلامية، كان في السابق عملاً محدوداً بل ونادراً.
أمور كثيرة تتعلق باستجابات وأفكار، يمكن أن تختفي مثل ما نشأت، وكما كان العالم قائماً بدونها، فإنه يمكن أن يواصل حياته وأعماله مرة أخرى بدونها، إننا ننسى كثيراً إن لم يكن دائماً أن جميع ما لدينا اليوم من مؤسسات وأعمال، لم تكن موجودة قبل فترة وجيزة، متى بدأت المدارس التي ينتظم بها الطلاب كل يوم؟ ومتى أصبح التعليم إلزامياً؟ وكذا الوزارات والمؤسسات والأجهزة والإدارات والأسواق، هي أعمال ومؤسسات برغم ما تبدو عليه من رسوخ وقوة نشأت حديثاً ولم تكن موجودة من قبل، ويمكن أن تستغني عنها الأمم.
نشأت العيادات ومؤسسات الرعاية والرقابة الصحية في تشكيلها المنظم والمؤسسي، بعد الحرب العالمية الأولى وجائحة الإنفلونزا الإسبانية، التي أصابت حوالي خمسمائة مليون إنسان، وقتلت حوالي مائة مليون، وتكرست بعد انحسارها المؤسسات والأنظمة والتشريعات الطبية والعلاجية، لكن والأكثر أهمية اتسعت على نحو مضاعف اتجاهات النظافة والتغذية الجيدة.. يقول المفكر الإنثروبولوجي «لويس ممفورد»: إن العالم أمكنه بعادات النظافة والتغذية الجيدة مواجهة المرض وإطالة العمر، وتحسين الحياة أفضل بكثير، مما فعلت تكنولوجيا الدواء والعلاج، ويقول أيضاً: إن مسالخ الحيوانات المذبوحة في مدن اليوم تتمتع بمستوى من النظافة، يزيد على غرف العمليات والمستشفيات في القرن التاسع عشر.
*كاتب وباحث أردني