هل تكون الحكومة الجديدة في خضم هذه الأزمات المستفحلة التي يعيشها لبنان من اقتصادية وسياسية، المعبر الأول أو الذريعة لإحداث تغييرات بنيوية في لبنان، تضع حداً لاتفاق الطائف، فيكون البديل ما يمكن أن يسمى الجمهورية الثالثة؟
هل يعني ذلك، أن اتفاق الطائف شكل الجمهورية الثانية (والفرنسيون الأولى)، الذي يوحي تعددية الهيكلة العامة لمختلف السلطات، وإيجاد توزان في طريقة حكم البلاد، قد انتهت صلاحياته بالنسبة لمحور المقاومة والممانعة، وبات ضرورياً تحطيم هذه المثلثات والمربعات الطائفية، أي المحاصصة وفرض نظام أحادي عمقاً، ومتعدد افتراضاً.
وإذا كانت الجمهورية الأولى هي جمهورية ما يطلق عليها «المارونية السياسية»، والثانية هي جمهوريات أبطال الحروب والميليشيات بتمثلاتها تحت هيمنة النظام السوري، ومن ثم إيران، فإن هذه الثالثة تقتبس الأولى: من المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية.
لكن لا يتخذ معنى الشيعية هنا المنحى اللبناني مثلاً، بقدر ما يتعلق بالارتباط الخارجي لضرب هوية لبنان ككل، خصوصاً هويته العربية التي تمسكَ بها دستوره (وهو من مؤسسي الجامعة العربية)، وإضعاف كل علاقة بها إلى درجة عزلها ووضعه في مواجهتها.
ونرى أن خسف هذه العلاقة التاريخية والعضوية بالعرب، تؤدي حتمياً إلى خسف معنى الوجود اللبناني نفسه ودوره ومستقبله، لاستفراسه وعزله وخنقه، فمسألة الهوية العربية يمكن أن تكون المعادلة المستحيلة: أيكون لبنان من دون العرب أو لا يكون؟
وعندما يُقطر هذا البلد بقاطرة محاور خارجية كالمحور الراهن، فذلك يدل ليس فقط فقدان إنتمائه اللبناني والعربي، بل أيضاً سيادته أو ما تبقى منها، وديمقراطيته أو ما تبقى منها، ومجتمعيته أو ما تبقى منها، وإذا كان من مترتبات هذا التغيير إقامة دولة جديدة، فلا يمكن إلا أن تكون على صورة الدويلة، أو حتى على صورة الكانتونات المذهبية التقسيمية، التي سادت الحرب منذ 1975، أي في العمق نظام ميليشياوي بلباس مدني أو أمني وعسكري، ليتحول لبنان مساحةً مجهولةً لمقاطعات مجهولة ومتصرفيات مسترجعة.
لكن الأمور لم تبدأ الآن، بل هناك شواهد كثيرة في السنوات الأخيرة، تبين مسعى «حزب الله» إلى قرض المؤسسات واختراقها وحتى ابتلاعها، فوجوده وسلاحه ومرجعيته مهدت لهذا التحول المفترض من تغيير قانون الانتخابات، إلى فرض انتخاب ميشال عون رئيساً، إلى سلسلة من التعطيلات الحكومية والبرلمانية، وإلى اعتماده سياسة الغزو في 7 أيار عندما احتل مع تيار ميشال عون، و«أمل» وسط العاصمة على مدى سنة ونصف السنة، واخترق الجبل (الدروز) للمرة الأولى، هذا الوحي في التمدد والتوسع ليس سوى محاولة تأصيل هيمنته، وإنْ بالتدريج على القرارات المفصلية، لا سيما قرار الحرب والسلم، فهو يُمسك أصلاً بهذه القرارات، لكنه يريد اليوم شرعنتها دستورياً لتتناول أيضاً القضاء والجيش وقوى الأمن والسياسة الخارجية، وصولاً إلى رمز لبنان الاقتصادي: مصرف لبنان، وما كلام رئيسي الحكومة والجمهورية عن هيكلة المصرف اللبناني، سوى إشارة دامغة إلى نية في قلب المسار الاقتصادي الحر إلى آخر تأميمي ربما، ونتذكر كلام «حزب الله»، عندما طالب بتغيير علاقات لبنان الاقتصادية من أوروبا إلى الصين وروسيا وإيران.
لكن هل سيكتب النجاح لهذا الخطر الذي يمس الكيانية اللبنانية؟ هذا منوط بالشكل الذي سيرد عليه الشعب اللبناني.