بعد التخفيضات والتخفيضات المضادة والتي هوت بأسعار النفط إلى ما دون 30 دولاراً للبرميل نزولاً من 65 دولاراً، دخل العالم في الأيام القليلة الماضية مرحلة جديدة تشير بوضوح إلى الولوج في حرب أسعار ستعني من بين أمور أخرى، المزيد من التدهور في أسعار النفط.
مؤشرات هذه الحرب لن تقتصر على مستويات الأسعار، وإنما ستمتد إلى المنافسة على الأسواق التقليدية لكل من المصدرين الكبار؛ إذ من المعروف أن الأسواق الآسيوية هي المنفذ الرئيسي لصادرات بلدان الخليج العربي من النفط، وأوروبا المنفذ الأساسي لصادرات النفط الروسية والشمال أفريقية، في حين تمثل بلدان الأميركيتين المنافذ الأساسية لصادرات المكسيك وفنزويلا وكندا.
مع اشتداد حرب الأسعار، فإن هذه الصورة التقليدية قد تتغير إذا لم يتم الاتفاق على مستويات إنتاج جديدة ضمن دول (أوبك+)، حيث بدأت تباشير حرب الأسواق تتبلور شيئاً فشيئاً، من خلال العديد من الإجراءات والخصومات التي اتخذتها بعض البلدان، فبعد إعلان روسيا عن زيادة الإنتاج، أعلنت السعودية عن زيادة الطاقة الانتاجية إلى 13 مليون برميل، والإمارات إلى 5 ملايين برميل، والكويت إلى 4 ملايين برميل يومياً.
هذه الكميات الإضافية من الأطراف الرئيسية تحتاج لمنافذ تسويق، مما يعني اشتداد المنافسة على الأسواق التقليدية، فبعد توجه روسيا لزيادة صادراتها إلى الصين، تعهدت السعودية وفق «بلومبيرج» بتزويد مصافي التكرير الأوروبية بما يصل إلى 3 أضعاف وارداتها الحالية، في الوقت الذي خفضت فيه شركة «أرامكو» أسعارها لهذه الدول إلى 25 دولاراً، مما يشكل تحدياً للنفط الروسي، كما استأجرت الشركة السعودية للنقل البحري ست ناقلات كبيرة لشحن 12 مليون برميل من النفط إلى الولايات المتحدة.
مثل هذه الإجراءات والخصومات ستستمر في الفترة القادمة لتساهم في المزيد من التدهور في الأسعار، مما سيخلف تداعيات كبيرة على اقتصادات البلدان النفطية، علماً بأن بوادر مثل هذه التداعيات برزت بصورة واضحة مؤخراً، ففي الوقت الذي ترتبط فيه العملات الخليجية بالدولار الأميركي، مما يمنحها ثباتاً ويحميها من التقلبات، فإن روسيا تعاني من هذه الحرب بصورة مزدوجة، فبالإضافة إلى انخفاض عائداتها النفطية، فإن عملتها تسير نحو الهبوط، حيث انخفض الروبل بنسبة كبيرة ليصل إلى 72 روبلاً، مقابل الدولار، وهو ما سيرفع معدلات التضخم وزيادة أسعار السلع والخدمات.
في هذا الجانب أيضاً، طلبت السعودية من مؤسساتها خفض النفقات بنسبة 20% لتقليل العجز في الموازنة الحكومية، وهو ما يتوقع أن نشهده في بقية البلدان المنتجة للنفط، وذلك لتفادي حدوث عجوزات كبيرة في الموازنات العامة لتتخطى مستويات الأمان عند 3% من الناتج المحلي الاجمالي.
كل هذه العواقب والتداعيات الخطيرة كان ممكناً تفاديها، لو التزم الجميع بالدبلوماسية الهادئة للوصول إلى حلول وسط، وهو أمر ممكن في ظل العلاقات الطيبة والمميزة بين البلدان الرئيسية في مجموعة (أوبك+)، والتي بفضل تعاونها حافظت على أسعار عادلة طوال السنوات الأربع الماضية، والذي يمثل صمام الأمان لها، حيث تتطلب الحكمة العودة إلى الاتفاق السابق، وذلك انطلاقاً من مبدأ تغليب المصالح المشتركة الذي يحكم العلاقات بين الدول.
بالتأكيد، هناك من سيحاول تأجيج هذه الحرب، انطلاقاً من مصالحه أيضاً ولضرب أكثر من عصفور بحجر، مما يتطلب تفويت مثل هذه الفرصة، إذ أن هناك بوادر إيجابية تمثلت في دعوة وزير الطاقة الروسي «ألكسندر نوفاك» لعقد اجتماع لمجموعة (أوبك+) بالفيديو، وهو ما قد يؤدي إلى استجابة بقية الدول له، لانهاء هذه الحرب وعودة أسعار النفط لمستويات مقبولة، مما سيشكل مكسباً كبيراً للجميع.