من الأبحاث التي كان يجريها البنتاجون عام 2016م بحث لدراسة طائر الشرشور ( = طائر الحسون الإسباني) الذي يستطيع أن يبقى يقظاً لمدة 7 أيام متتالية، لكي يستفيدوا من قدرته الفريدة في جعل الأفراد يستغنون عن النوم، ويحافظون في الوقت ذاته على جهوزيتهم لأكثر من 24 ساعة. وإذا انتقل المرء إلى شركات العالم الافتراضي، فسيكتشف أنه لشد ما كان يضايق شركة جوجل، نوم الإنسان، فوقت نومه بالنسبة لها كشركة كبرى يعتبر وقتاً ميتاً، حيث يكون فيه خارجاً عن دائرة الاتصال والمراقبة - الإنترنت، ولا يدرُ على الشركة أي دخل، ما تعدّهُ خسارة، لذلك كان من ضمن أهدافها المستقبلية (القضاء على الموت)، ولأن مهمة كهذه مستحيلة وتدرك أنها لا تستطيع تحقيقها، استبدلت الهدف بآخر جديد: إطالة عمر الإنسان عبر حمايته لأطول مدة ممكنة من أي أمراض تهدد حياته.
«يانيك بولوري»، رئيس مجموعة «هافاس» الأميركية المتخصصة في التواصل وميدان الإشهار، يروي: في بداية عام 2014م سافرت إلى سان فرانسيسكو للقاء مسؤولي جوجل (وعندما حطت بنا الطائرة شغلت هاتفي وتلقيت رسالة نصيّة تخبرني أن هنالك بجانب فندقي مطعماً يابانياً يقدم السوشي سومون. فأقلقني هذا النص، فقد كانت تلك هي وجبتي المفضلة). وعندما وصلت إلى مقر جوجل، سألت: من يكون هذا الذي بعث لي هذا الإعلان؟ فرد أصحاب جوجل: نحن من فعل ذلك، لقد حددنا موقعك منذ نزولك في المطار، واطلعنا على مذكراتك وبريدك وعرفنا في أي فندق ستنزل، وأنك تحبّ السوشي سومون. يضيف «بولوري» بأنه تساءل: وما موقع الحياة الخاصة عندكم ؟ فأجابوني: آه .. الحياة الخاصة !).
وفي العام ذاته 2016م فور صدور كتاب (الإنسان العاري) بطبعته الفرنسية وقبيل ترجمته إلى العربية، تحول إلى الكتب الأكثر مبيعاً في عالم الفضاء الافتراضي الرقمي، وجاء محتواه إنذاراً خطيراً على ما وصلت إليه (قوات تدخل العالم الافتراضي) من تحكم شركات (جوجل وفيسبوك وتويتر) بعالمنا وعقولنا وطريقة تفكيرنا وسلوكاتنا، فهي تمتلك، إضافة إلى أبل ومايكروسوفت، مانسبته 80 بالمئة من المعلومات الشخصية الرقمية للإنسانية جمعاء، وهو (منجم الذهب الأسود الجديد). ولعل هي من يجعل من أميركا القوة العالمية الفائقة بحسب المؤلفين «مارك دوغان» و«كريستوف لابي». الناقد ومترجم الكتاب، المغربي سعيد بنكراد، قال إن كتاب (الإنسان العاري) وكتاباً آخر مهماً عنوانه (أنا أُسِيلَفي إذن أنا موجود) للفرنسية «إلزا غودار»، يشيران إلى وجود خطر يهدد البشرية في مناطقها الأكثر أصالة: الذاكرة واللغة. فلم يعد العالم الافتراضي لعبة عارضة في حياة الناس، بل تحول إلى وجود حقيقي له (هوياته) وضمائره ومساحاته، فصداقات الشبكات الاجتماعية الوهمية الخالية من الدفء الإنساني، دليل خطر أن الفضاء الاجتماعي الحقيقي يجنح إلى الاختفاء، فالحياة الخاصة أصبحت أمراً غير مألوف.
المفارقة الغريبة التي يصل إليها الكتابان معاً هي: إن الثورة الافتراضية بإنجازاتها الكبيرة لم تقُد، كما كان مؤملاً، إلى تجدّد الإنسانية، عبر بلورة المزيد من القيم التي تحتفي بروح الأخوة والصداقة، بل كل ما حدث كان ولادة (فرد فائق) يتحرك ضد نفسه وضد المجموع، ضمن إمكانات (واقع فائق).. إنسان (مزوّد) بالافتراضي والبدائل الصناعية، لكنه من الداخل، مُفرغ. من هنا تأتي أهمية جملة الكاتب الإيطالي الكبير (أمبرتو إيكو) في مقابلته لموقعي (فيسبوك وتويتر): إنكما تمنحان حق الكلام لفيالق الحمقى يتكلمون مثل حملة جائزة نوبل .. إنه غزو البلهاء).
*إعلامي وكاتب صحفي