كل ما تطلبه الأمر هو وباء عالمي ذو حجم وحدة، ربما غير مسبوقين، لنصبح فجأة مثل الدانمارك، فخلال الأيام القليلة الماضية، عدد من الشركات الأميركية التي لطالما قاومت توفير مزايا إنسانية وضرورية لعمالها، غيّرت فجأةً موقفها، معلنةً عن خطط لدفع أجور وحماية حتى أدنى موظفيها رتبة، بسبب تضررهم من فيروس كورونا، فقد أعلنت شركتا «أوبر» و«ليفت»، اللتان تخوضان في الوقت الحالي معركة ضد جهود بعض الولايات الرامية لإرغامهما على دفع مزايا للسائقين وعمال مستقلين آخرين، أنّ شكلاً من أشكال الإجازة المرضية مدفوعة الأجر ليس فكرة سيئةً على كل حال، فالسائقون الذين أصيبوا بالفيروس الجديد أو وُضعوا قيد الحجر الصحي سيتقاضون أجورهم لفترة أسبوعين، كما أعلنت «أوبر»، ومن جانبها عرضت «ليفت» تعويضاً مماثلاً.
وإلى ذلك، قالت شركة «تريدر جوز» للبيع بالتجزئة: إنها ستغطي الإجازات المرضية الناتجة عن الفيروس، وأعلنت بعض شركات التكنولوجيا أنها ستواصل دفع أجور موظفيها، الذين لا يستطيعون العمل خلال مرحلة تفشي الفيروس، كما أعلنت «أمازون» أنها لن تعاقب عمال المخازن بسبب تغيبهم عن نوبات العمل.
وبعد أن أشار الصحفي جود ليجوم، إلى تاريخها الطويل في محاربة سياسات الإجازة المرضية، أعلنت شركة «داردن ريستورانتس»، التي تدير عدداً من سلسلات المطاعم، مثل «أوليف غاردن»، أنه سيصبح بإمكان موظفيها الـ170 ألف الذين يشتغلون بنظام الساعة، الحصول على إجازة مرضية مدفوعة الأجر.
وهكذا، فبين ليلة وضحاها تحولت أماكن العمل عبر الولايات المتحدة كلها إلى جنات اسكندنافية للمرونة، لا تستطيع الذهاب إلى العمل، لأن طفلك اضطر فجأة للمكوث في البيت وعدم الذهاب إلى المدرسة؟ الأسبوع الماضي كان يقلقك هذا الأمر، أما الآن فلا داعي لهذا السؤال أصلاً! اذهب إلى البيت، وابق إلى جانب طفلك!
والحقيقة هي أننا بعيدون عن أن نصبح مثل الدانمارك، ذلك أن العديد من سياسات حماية العمال المعلن عنها حديثاً، مثل الإجازة المرضية والمرونة، محدودة ولا تنطبق سوى على تأثيرات فيروس كورونا، كما أن خطة الإغاثة المقترحة من قبل الإدارة يمكن أن تتبخر ولا تنفذ أبداً، واهتمام الجمهوريين بالرعاية الصحية الشاملة عابر ومؤقت، ومصدر الحرج الحقيقي هو أن الأمر تطلب وباءً حتى يدرك الزعماء أن صحة القوة العاملة الأميركية مهمة لقوة البلاد، فمع انتشار فيروس كورونا عبر الكوكب، فكرتُ في المرض باعتباره اختبار جهد باهظاً جداً بالنسبة للنظام العالمي، وكصدمة حادة مفاجئة تمارس ضغطاً على المجتمعات في أضعف نقاطها، فبعض الدول، مثل إيران وربما إيطاليا، تترنح تحت الخطر، وأخرى، مثل كوريا الجنوبية، تبدي قوة لافتةً، والبلدان الأحسن ستستقبل الأزمة باعتبارها فرصة لبناء مجتمع أقوى، وأحسن استعداداً لخطر مستقبلي غير مرئي، والبلدان الأسوء ستتعامل معه على أنه مصدر إزعاج مؤقت، فترفض بحث علاجات أعمق، حتى وإن كانت تترنح تحت عبء هذه الأزمة.
والواقع أنه من غير الواضح حتى الآن، إلى أي مدى سيكون رد النموذج الأميركي قوياً وفعالاً، لكن المؤشرات الأولى ليست مشجعة، ذلك أن ما نكتشفه حالياً هو أن مجتمعنا قد يكون أكثر هشاشة مما كنا نعتقد، فالفيروس كشف عن أكبر نقطة ضعف لدينا: صحيح أن لدينا أكبر اقتصاد وأقوى جيش في العالم، لكن يبدو أننا بنينا البناء كله على طبقات وطبقات من الخطر غير المبرر، لأننا نسينا أن نمنح قيمة للمقياس الحقيقي لنجاح البلاد: ألا وهو رفاهية سكانها.
معظم الخطر الذي نواجهه اليوم، يعزى إلى شبكة الأمان الاجتماعي الأميركية الممزقة بسبب الكلفة الباهظة للرعاية الصحية ورعاية الأطفال ورعاية المسنين وغيابها، وحرب الشركات على الإجازة المرضية، وآفَتَيْ التشرد والجوع، وبينما يكتسب الفيروس موطئ قدم على سواحلنا، أخذ الكثير من الأميركيين ينتبهون الآن فقط للطرق التي تؤدي بها هذه العيوب في شبكة الأمان إلى بعضها البعض، ذلك أنه إذا لم تدفع الشركات المال للعمال عندما يكونون في إجازة مرض، فسيكون لديهم سبب للعمل أثناء المرض، ما يعرّض الجميع للخطر، وإذا لم تقم بتغطية فواتير الناس الطبية، فإنهم قد لا يسعون وراء المساعدة الطبية، ما يعرّض الجميع للخطر.
والحق أنني أودُّ تخيل مستقبل مشرق، لكني أعترف بأنني لست متفائلاً، فقبل عقد من الآن، مرت أميركا بـ«الركود الكبير» دون فرض كثير من العلاجات الحقيقية لخطط نظامنا المالي، فحُمي عمالقة «وول ستريت»، وتُرك الفتات فقط للأشخاص العاملين، ولا شك أن كورونا قد يعلّمنا جميعاً تقدير شبكة أمان قوية وتثمينها، لكن من المحتمل جداً أن ننسى الدرس، لأن هذه أميركا، ونسيان الأشخاص العاملين هو ما نفعله تحديداً.

*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»