عرفت دراسة العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية بروز ظاهرة «الفاعلين من غير الدول»، فبعد أن كانت الدول تحتكر ساحة التأثير في النظام الدولي ظهر فاعلون جدد كحركات التحرر الوطني والشركات الاقتصادية العملاقة عابرة الجنسيات ولاحقاً التنظيمات الإرهابية وغيرها، وأصبح اكتمال دراسة العلاقات الدولية مستحيلاً دون أخذ هؤلاء الفاعلين بعين الاعتبار، ولم يخطر ببال أحد ساعتها أن مفهوم «الفاعلين الدوليين» يمكن أن يمتد ليشمل فيروساً ضارياً مثل «كورونا»، ويحتاج اعتبار «كورونا» فاعلاً مستقلاً في العلاقات الدولية نقاشاً؛ لأنه لو صحت نظرية المؤامرة التي تنسب ظهوره لدولة أو أخرى لأصبح مجرد أداة لتنفيذ السياسة الخارجية لدولة ما في سعيها لتحطيم الخصم، لكن أحداً لم يستطع حتى الآن إثبات نظرية المؤامرة بأدلة دامغة. وعموماً، فإن حسم هذا الجدل يبدو مسألة تحليلية حول أثر «كورونا» على العلاقات الدولية. فهل أثّر الفيروس على السباق إلى قمة النظام العالمي؟ لقد سبقت الإشارة في مقالة عن الصين في هذه الصفحة إلى أن انتصارها في معركة مواجهة الوباء سوف يكون مقوماً مهماً في رصيد حساباتها كقوة عظمى، ويبدو حتى الآن أنها نجحت، وأن ما أبدته من سلوكيات تعاونية تجاه الدول المأزومة بالفيروس، مثل إيطاليا، جعل مبادرتها أهم بكثير من مبادرات شركاء إيطاليا الأوربيين، ويعني هذا أن الصين معنية بـ«المقوم المعنوي» لقيادتها العالمية. فالقيادة ليست مجرد عوامل للقوة المادية، وإنما يلزمها هذا المقوِّم الذي يوفر أساساً أخلاقياً للقيادة. ويعني هذا أن حصاد معركة مواجهة «كورونا» سوف يُحدث تغييراً كمياً وكيفياً في التنافس على قيادة العالم. فهل أثر «كورونا» على التحالفات الدولية؟ لقد عشنا عقوداً عقب الحرب العالمية الثانية نتحدث عن «التحالف الغربي» الذي يضم الولايات المتحدة وأوربا الغربية، فماذا فعل «كورونا» بهذا التحالف؟ لقد عانى سابقاً مشكلات كما حدث إبان السياسة المستقلة لفرنسا في ظل ديجول، وعانى مؤخراً سياسات ترامب ومواقفه السلبية تجاه الاتحاد الأوروبي ودور دوله في تمويل «الناتو». لكن ظهور الفيروس وانتشاره عالمياً أسفر عن مظاهر جديدة لخلاف الولايات المتحدة مع أوروبا، كما تبدى في قرار ترامب حظر السفر بين الولايات المتحدة والدول الأوربية دون تشاور معها، وكذلك في استثناء بريطانيا بدايةً دون سبب مقنع. ويعني هذا أن «كورونا» وإن لم يخلق الخلاف الأميركي الأوروبي، فإنه فاقمه. وعلى الصعيد الإقليمي، يثور السؤال حول ما إذا كان «كورونا» قد هدّأ من بعض الصراعات، فآخر التطورات تشير إلى أن «كورونا» ربما يكون قد نجح في ليبيا في تحقيق وقف إطلاق النار، وهو ما عجزت عنه القوى الكبرى خلال مؤتمر برلين الأخير، كذلك أقنع «كورونا» المحتجين في الجزائر بوقف احتجاجاتهم بعد أكثر من عام على بدئها، فضلاً عن علامات تهدئة لا تخطئها العين في العراق ولبنان.
لكن التأثير الأهم لـ«كورونا» في تقديري هو على العولمة التي اجتاحت العالم منذ ثلاثة عقود عقب انتهاء الحرب الباردة. والمفارقة في هذا التأثير أنه يثبت من ناحية حقيقة العولمة؛ لأن الانتشار العالمي للفيروس يؤكد حقيقة التواصل غير المسبوق بين البشر عبر الحدود، لكنه من ناحية أخرى أوجد مبرراً قوياً للعمل في اتجاه مضاد للعولمة وبالذات الاقتصادية، فالعولمة الاتصالية لا راد لها، لكن إغلاق الحدود بين الدول يدفع لمراجعة فكرة الاعتماد المتبادل.. فما العمل لو استمر إغلاق الحدود شهوراً؟ يمكن أن يفضي هكذا وضع إلى كوارث اقتصادية وإنسانية، الأمر الذي يدفع إلى إعادة التفكير في مسلّمات العولمة والعودة مجدداً لسياسات الاعتماد على الذات.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة