منذ شهور، كانت الحياة تمضي في صخب روتيني، وكانت أيامنا تبدأ مع شروق الشمس في صراع يومي متكرر.. كانت أخبار الحروب والصراعات والألعاب السياسية والحروب الاقتصادية تتصدر النشرات والصحف، وفي لحظة فارقة بدأ الخبر صغيراً، مجرد مرض ما بسبب فيروس ما أصاب بعض سكان مدينة ووهان في الصين.. أبدى العالم نوعاً من التعاطف المؤقت، وفجأة تتصاعد الأخبار حتى انفجر الفيروس في وجه العالم، وتحول إلى جائحة عالمية كما وصفته منظمة الصحة العالمية، ارتبك العالم، ارتعش الناس، الخوف لم يتسلل بل اقتحم قلوب الناس، أصبح فيروس كورونا هو بطل الساحة.
ذلك العدو الصغير الذي يحاول العالم كله مطاردته، لكنها كمطاردة طفل لأرنب في غابة برية، أصبح العالم كله رهين بيته وخوفه وقلقه، وهنا يأتي السؤال: ماذا بعد؟
تلك الأزمة ستصل يوماً إلى منتهاها، كل الأوبئة التي ضربت العالم عبر العصور المختلفة تم ترويضها بعد خسائر بشرية، لكن الإشكالية لا تكمن في التخلص منه والعودة للحياة الطبيعية، الإشكالية تكمن في ماذا بعد العودة للحياة الطبيعية؟
على مستوى الإنسان، تلك الأزمة جنحت به إلى عدة قناعات، من أهمها أنها أولاً: غيّرت من مفهوم سيادة الإنسان على الكون والطبيعة، ثانياً: جعلت القيم الأخلاقية تتصدر المشهد، حين تحولت أعين الناس إلى مشاهدة الضحايا في مختلف الدول، لم ينظر الناس إلى أن هؤلاء الضحايا مختلفون عنهم في الجنس أو اللون، بل كانت النظرة إنسانية شاملة، نُظر إليهم كبشر، وذلك تحول إنساني كبير، سيكون له الأثر الإيجابي على الصراعات الإنسانية على مدار السنوات القادمة.. ثالثاً: ستتغير مفردات الخرافة في اليقين البشري، سيمتلك العالم قدراً أكبر من العقل، والخروج من نفق الخرافة المظلم، الذي ظل قابعاً على صدور الكثير من المجتمعات المتمسكة بمواريثها من الخرافة، وخاصة تلك الخرافات التي ترتبط بالمرض، رغم أن هذه الجائحة جنحت بالإنسان نحو الروحانيات إلى حد ما، تلك الروحانيات التي لا ترتبط بالخرافة، بل ترتبط بالمعادل الموضوعي لسيطرة المادة والأرقام والحسابات ومبادئ المكسب والخسارة على حساب العلاقات الإنسانية.
على مستوى الحكومات، وخاصة التي تحكم المجتمعات المتأخرة حضارياً، والتي ظل البحث العلمي لديها يأتي في المراتب الأخيرة، أرى أن الأمر سيتغير خلال السنوات القادمة، وسينشأ صراع جديد ليس مسلحاً ولا فكرياً، فكما أن هناك حروباً تجارية نشأت في السنوات الأخيرة، ستنشأ حروب علمية قاسية هي ليست مستحدثة، لكنها في السابق كانت صراعات بين الشركات، ولكنها ستتحول إلى صراعات بين الدول، كذلك الصراع الذي دار بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في الخمسينيات والستنينات في الصعود للفضاء، ونحن لسنا ببعيد عن هذا الصراع المحموم بين عدة دول حالياً، للوصول إلى علاج لفيروس كورونا، لكن هذا الصراع سيظل إنعكاسه الإيجابي على البشر حبيساً لقواعد الصراع بين الدول.
الصراع لن ينتهي، لكن هناك تغيرات ستحدث حتماً، وخاصة بعد التغيرات السلبية الاقتصادية التي طالت العالم كله خلال الأزمة، والاقتصاد ينعكس على الصراعات، فقد تشتد وتيرة الصراعات الاقتصادية، مما يعمل على تغير المعادلة الاقتصادية العالمية.
العالم عادة لا يتجه للتوحد إلا نادراً، وخاصة على مستوى الحكومات، لكن سيحدث توحد على مستوى الشعوب، تقابله صراعات أخرى برداء جديد من قبل الحكومات، وإن هدأت آلة الحرب في العالم حالياً خوفاً من الفيروس، الذي عدد قتلاه لا يتجاوز عدد قتلى الحروب حول العالم في يوم واحد، لكن الإنسان لا يرى ما تصنعه يداه، بل يرى ما يصنعه الآخر.
ستمضي الأزمة، وستنهي العزلة، وستعود الحياة إلى طبيعتها، وسنفرح ونستمتع بما كنا نمل منه، ثم سرعان ما نمل منه من جديد، ولكن سيكون هناك شىء ما تغير فينا في وجداننا وقناعاتنا، سيؤثر حتماً على القادم من الزمن، قد ندركه كجيل حالي، وقد يدركه الجيل التالي، حركة التغير لن تكون عنيفة وسريعة، بل ستكون بطيئة وراسخة، سيكون تغيراً إيجابياً على مستوى الإنسان، لكن ما يتعلق بأهمية البحث العلمي، فإن طريق التغيير ما زال طويلاً.
* أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة في الأمن الاجتماعي والسياسي