لقد تطور مفهوم العمل في القرون القليلة الأخيرة، مبتعداً عن روايته المنشئة على مدى آلاف السنين، واليوم- وبتأثير من وباء كوفيد19 - يعيد الإنسان فهم العمل أو يرد معناه إلى روايته المنشئة. فقد كان العمل على مدى التاريخ البشري جزءاً من الذات الإنسانية، بمعنى أنه يعمل بنفسه ولنفسه، ما يعني على نحو أساسي، أن العمل لا ينفصل عن الذات الأساسية، ولا يقدم للآخر إلا على سبيل التطوع أو التضامن أو التعاون أو المبادلة، وفي عصر الزراعة وبسبب حاجة الإنسان إلى قوى عمل إضافية، ابتدعت منظومات جديدة للعمل، منها العمل الجماعي، وتطور الحرف والمهن المستقلة، ثم وبفعل القوة المنظمة تشكل نظام الرقّ أو العبودية لمواجهة الحاجة إلى العمل وتوظيف التفوق الناشئ عن استخدام السلاح والانتصار في الحروب. وكما أنشأت التكنولوجيا الزراعية نظام الرق، فإن التكنولوجيا الصناعية أوقفته. وبدأ العمل يكون مورداً مستقلاً، مثل السلع والخدمات التي تباع وتشترى، فالإنسان يبيع عمله أو مهاراته ومعارفه لأصحاب العمل والشركات التي بدأت بالتشكل، فهي ظاهرة حديثة، لم تكن موجودة من قبل، وكان الناس يعملون بأنفسهم في بيوتهم أو في ساحات قريبة من البيوت، وكان يساعد صاحب العمل فتى أو أكثر، يتدربون على الحرفة بالإضافة إلى المساعدة.
وكان المال يعني الأرض أو المواشي، لم يكن المال غير ذلك، وظل كثير من حكماء العرب لا يرون الذهب والفضة مالاً، والغني هو القوي المتنفذ، وظل هذا المعنى سائداً حتى القرن التاسع عشر، ومازال أحد معاني (rich) المدرجة في قاموس أكسفورد. ويسخر الشاعر العربي الأعشى ميمون بن قيس من «الفلاحين» الذين يعتبرون الثروة في الزراعة، ويعتبر ذلك من البلاهة، فالثروة هي الإبل.
وفي كتاب «إصلاح المال» لابن أبي الدنيا أن معاوية سأل الحكيم عقبة بن سنان الحارثي، أي المال أفضل؟ فقال: عين خرارة في أرض خوارة، تعول ولا تعال، أو نخلة سمراء في تربة غبراء، قال: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها فرس تتبعها فرص، أو نعجة صفراء في بقعة خضراء، قال معاوية: فأين أنت عن الذهب والفضة؟ قال: وما للعاقل ومالهما، حجران يصطكان، إن أقبلت عليهما نفدا، وأن تركتها لم يزيدا.
لقد تحولت الثروة إلى المال الرمزي بما هو الأوراق النقدية، وصارت قيمة العمل، ومن ثم قيمة الإنسان نفسه، بما يجلب من نقود، حتى لو كان عملاً غير منتج، أو لا يزيد أو لا ينقص في حياة الناس، وتراجعت قيمة أعمال كثيرة جداً مهمة في الحياة والتنمية، لكنها لا تجلب النقود، مثل أعمال المنزل وشؤون الأسرة والعناية بالأطفال والمرضى وكبار السن، وما يفعله الإنسان لتحسين حياته، من الطهو والنظافة والصيانة. وصارت أهمية الإنسان مستمدة من خارجه؛ أي من العمل مهما كان، وليس من ذاته ومن قدرته على أن يكون مفيداً لنفسه وأهله ومجتمعه، وأن يحسن حياته ويكون عضواً نافعاً مفيداً في المجتمع والعالم المحيط به، إلا إذا كانت هذه المشاركة تجلب المال، وهذا المال لم يعد سوى أوراق أو رموز إلكترونية (بطاقات الكريدت).
اليوم، يعود الناس مدفوعين بالوقاية من الوباء إلى عملهم الحقيقي، بما هو الحياة والصحة والسلامة من الخطر ومساعدة الذات والآخرين أو عدم إيذائهم، موكد بالطبع أن الإنسانية سوف تهزم الوباء، لكن يرجح أن تعيد النظر في معنى العمل والحياة نفسها.
*كاتب وباحث أردني