إن مجرد امتلاك ثقافة معينة، يبقى مجرد ملكية شخصية لا يتجاوز تأثيرها تأثير الشخص المثقف، إلا في حالة تسخير معرفته وأفكاره ورؤيته الثاقبة من أجل الإنسان والمجتمع. ولا يمكن إنكار معرفته لمختلف جوانب الحياة ومراقبة المشاكل الاجتماعية والفكرية، وكذلك علامات التغيير التي يعاني منها كل مجتمع في وقت معين من حقبة معينة، أو عندما يسود التغيير العالمي على كل مستوى من مستويات الحياة. ولكن ليس كل من لديه القليل، أو حتى الكثير، من المعرفة في مجال معين، يمتلك القدرة على التأثير على بيئته، أو لعب دور المربي المثقف ويملك ملكة التوصيف والتحليل، ثم طرح الحلول والدفاع عن الأفكار، ولربما الدفع من أجل تغيير إيجابي. وحتى يتحول من كونه مثقفاً إلى كونه مفكراً، فإنه يتجه بكل كيانه الفكري والشعوري ومواقفه نحو دفع عجلة إعادة النظر في الأمور العالقة بين الماضي والمستقبل، وحملها لعالمه المعاصر، دون أن يغفل من ماذا عساها تريد أن تهرب ذاته، وعن ماذا تتوق أن تنسلخ!
ولا يستمد دور المثقف أو أهميته في المجتمع من منصبه أو شهرته أو وضعه الاجتماعي أو مجال معرفته العامة والخاصة، بل ينبع من إمداداته العقلية القوية وغير القابلة للكسر في أهمية أي عمل يمكن اعتباره قيمة مضافة للمجتمع، سواء في شكله الفني أو الجمالي، أو في فئة الإصلاحات التي تتطلّب استهداف الثغرات التي إذا أهملت تتسع لتصبح أكبر الفجوات الاجتماعية، وما يجعل المرء مثقفاً حقيقياً ليس فقط حجم معرفته، بل قدرته على التحليل والتعبير وإنتاج محتوى فكري أو فني معين، والأهم من ذلك أن يكون قادراً على توظيفه وتوجيهه مع رؤية أو هدف.
وسواء كان للفعل الثقافي تأثير إيجابي أم لا، فإن الحركة الفنية والحركة الفكرية تمثلان معقلاً للقوة وإدامة طويلة الأمد للدور الثقافي. ومن المعروف جيداً أيضاً أن التاريخ القديم والمعاصر غني بأمثلة المثقفين الذين كان لهم مثل هذا التأثير الهائل، والذين كانوا الدافع الرئيسي وراء التغيّرات الرئيسية في مجتمعاتهم سياسياً واجتماعياً على حد سواء، وإن كانت مسألة الطبيعة الدقيقة للنشاط الفكري لا تزال موضع نقاش بجانب الجدل المعاصر حول هوية المثقف وأهدافه، وهل يجب أن يشكل المثقف جانباً من الحراك العام وأن يعلن موقفه من أجل القضايا المهمة في الوقت الحاضر، وشرعية التدخل في النقاش العام أم لا.
وتقييم المجتمع للمثقف، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، له دور كبير ينعكس على روح الثقافة المحلية، وقبولها الدولي كجزء من تقليد طويل، شكّل وظيفة المثقفين في المجتمع المعاصر وأيضاً دورهم وتمثيلهم وأفعالهم، دور يؤثر كذلك في تنوعهم ومساراتهم المتضاربة والمتغيرة، والصراعات التي يجلبونها أو يحرّضون عليها.
وتنطوي الخلافات على مسائل سياسية وثقافية وأخلاقية، بقدر ما تنطوي عليها القضايا المتعلقة بتأثير اللغة والتقاليد والظروف التاريخية على التدخل الفكري، وبصورة أدق فإن الأمر يتعلق بتحديد ما إذا كان على المثقف عند اتخاذ المواقف أن يوضح استقلاله النسبي، أو أن يتخذ موقفاً منحازاً إلى توجه سياسي أو مذهب أو مجموعة ثقافية أو إثنية، وهل ينبغي للمثقف أن يعرب عن تأييده لتقليد عالمي يزدري جميع الجذور الثقافية المحلية، وجميع الإشارات الدونية إلى بيئة وثقافة معينة. وإذا قبل المرء أن يكون لكل مثقف جمهور معين وينتمي إلى ثقافة معينة، فإن ما يؤسسه، كمثقف، هو القدرة على التفكير والتصرف بمعزل عنهم، والانتقال بين التمسك بما هو مألوف والبقاء داخل المجتمع التاريخي، أو الانفتاح وتبنّي واعتناق التقاليد العالمية، ولما لا يتم المزج بينهما للنزول من البرج العاجي والمساهمة في هوية جامعة للمجتمع البشري.
*كاتب وباحث إمارتي متخصص في التعايش السلمي وحوار الثقافات.