يطرح كتاب عن القوة العسكرية الأميركية سؤالاً استراتيجياً مؤداه: لماذا تخسر الولايات المتحدة كل الحروب التي تبادر إلى شنّها؟ حدد مؤلف الكتاب «هارلن أولمن» بعض هذه الحروب الخاسرة وأبرزها:
الحرب الكورية (1950) المستمرة حتى اليوم، حرب فيتنام –التي انتهت بانسحاب مذلّ للقوات الأميركية من سايجون (عاصمة فيتنام الجنوبية). وحرب العراق الثانية التي أدت الى تفجير الخلافات المذهبية وإطلاق حركة التطرف الديني الإرهابي.
حرب أفغانستان التي يقول المؤلف إن بين عناصر القوات الأميركية المقاتلة فيها اليوم، جنوداً كانوا يبلغون من العمر عاماً واحداً عندما بدأت الحرب في عام 2001، ثم ان حركة «طالبان» التي كانت هدف الحرب الأميركية هي اليوم أقوى مما كانت عليه عندما أعلنت الولايات المتحدة حرب استئصالها من أفغانستان، وهي تسيطر على مساحات من الدولة أكثر مما كانت تسيطر عليه في أي وقت مضى، بل إن الولايات المتحدة تعترف بأنه لا يمكن تسوية الوضع بحيث تتمكن من سحب قواتها من دون التفاوض مع «طالبان». ولكن شروط هذه الأخيرة للتفاوض مرتفعة جداً مما يؤخر إطلاقها رسمياً.
عنوان الكتاب هو «تشريح الفشل Anatomy of Failure: أميركا تخسر كل حرب تبدأ بها». وهو صادر عن معهد البحرية للصحافة (2017). ويسجل المؤلف ملاحظة مهمة، وهي أن الولايات المتحدة تربح الحروب التي لا تكون هي البادئة في شنها. مثل حرب تحرير الكويت في عام 1991.
ويؤكد المؤلف على أنه لا توجد دولة في العالم قادرة على مواجهة الولايات المتحدة عسكرياً، الا أن ربح الحرب أمر آخر. ويتساءل عن السبب، ثم يحاول الإجابة عليه، ليس فقط باعتباره باحثاً في الاستراتيجيات العسكرية، ولكن باعتباره مقاتلاً سابقاً خدم في الجيش الأميركي في فيتنام. وهو مخطط برنامج العمل العسكري الذي اعتمدته القوات الأميركية في اجتياح العراق عام 2003، وكان مستشاراً لوزير الدفاع الأسبق روبرت مكنمارا، ثم لوزير الخارجية كولن باول.
يحدد المؤلف الأسباب التالية لفشل الولايات المتحدة رغم أنها القوة العسكرية الأقوى في العالم: أولاً: انتخاب رؤساء للدولة غير كفوئين. ثانياً: ارتكاب اخطاء استراتيجية بشكل مستمر.
ويقول إنه كلما كان الرئيس فاقداً للخبرة كلما ازداد اعتماده على العسكريين في وزارة الدفاع-. غير ان البنتاجون ليست مؤهلة لاتخاذ قرارات استراتيجية. إن ذلك هو من مهام المدنيين الذين انتخبوا ليكونوا رؤساء على العسكريين.
ويقدم المؤف أمثلة عديدة لتأكيد صحة نظريته. من هذه الأمثلة، اعتماد الرئيس الأسبق جون كندي على نصيحة جهاز المخابرات (سي.آي.إيه) لشنّ حملة عسكرية (خليج الخنازير) على كوبا. وكانت حملة فاشلة بكل المقاييس السياسية وحتى العسكرية.
واعتماد الرئيس جورج بوش الابن على نصيحة البنتاجون لاجتياح العراق، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى استئصال كل حركات التطرف. وكانت النتيجة عكس ذلك تماماً، وإيهام الرئيس السابق باراك أوباما بإمكانية تصفية حركة «طالبان» والقضاء عليها، فإذا بالولايات المتحدة اليوم تبحث في شروط «طالبان» للتفاوض على الانسحاب. ويستثني المؤلف من ذلك الرئيسين داويت ايزنهاور الذي كان قائد القوات الأميركية في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، وجورج بوش –الاب- الذي أوقف عملية اجتياح العراق في عام 1991 قبل أن تبلغ قواته بغداد. وهو ما لم يفطن إليه ابنه الرئيس جورج بوش في عام 2003.
ولعل من أهم ما في هذا الكتاب انه يلقي الضوء على حقيقة أساسية، وهي أن القوات الأميركية غالباً ما تجهل ثقافة العدو الذي تقاتله.. كما تجهل الأوضاع المحلية في الدول التي تجتاحها. ويقول إن القيادات الأميركية غالباً ما تتصرف على أساس الاعتقاد بأن العدو يفكر مثلها. وقد دفعت الولايات المتحدة ثمن تلك الأخطاء غالياً جداً.
ويقدم فيتنام مثلاً لذلك. ففي الوقت الذي كان الفيتناميون يقاتلون من أجل حقهم في تقرير المصير، كانت الولايات المتحدة تقاتلهم اعتقاداً منها بأن فيتنام هي مجرد حجر دومينو يكفي إسقاطه حتى يتوالى سقوط الكتاب الذي يعتبر اليوم واحداً من أهم الكتب التي تعالج موضوع القوة العسكرية الأميركية ومآلاتها سياسياً وعسكرياً، يمكن اختصاره في عبارة واحدة، وهي أن الولايات المتحدة تعاني من عدم التوازن بين القوة العسكرية المفرطة وضآلة المعرفة، من كثير من القوة.. وقلة التفكير!
كان رئيس الحكومة البريطانية الأسبق ونستون تشرشل يقول متهكماً عن الولايات المتحدة إنها في الحسابات الأخيرة تأخذ الموقف الصحيح.. ولكن بعد أن تكون قد جرّبت كل المواقف الخاطئة.
*كاتب لبناني