ليس التاريخ فقط هو التاريخ الاقتصادي أو السياسي أو الإداري أو العمراني.. بل هو أيضاً التاريخ الاجتماعي، وما يتعلق بحياة الناس وحِرفهم وصنائعهم وأوجه معاشهم ومصادر رزقهم، والكسب هو قيمة الأعمال البشرية، وهناك علاقة بين الأجر وقيمة السلعة، كما هو الحال في الاقتصاد الماركسي؛ فقيمة الشيء بمقدار ما يبذل فيه من عمل، لذلك حُرِّم الربا لأنه كسب دون جهد أو عمل.
والخدمة ليست معاشاً طبيعياً، لأنها غير منتجة، وقطاع الخدمات غير قطاع الإنتاج، وكذلك اكتناز الأموال، ليس معاشاً طبيعياً، لأنها أموال مكنوزة وليست مستثمرة، فالمال لا يولد المال، والجاه مفيد للمال، ليس بزيادته بطريق مباشر، بل بإيجاد علاقات استثمار للعلاقات العامة الواسعة، أما أهل العلم وحملة الأقلام ورجال الدين والقضاء والفتيا والتعليم والتدريس والإمامة والخطابة والأذان.. فلا تَعظم ثروتهم عادة، فهي مهن أقرب إلى الخدمات أو أداء الأمانات، بل إن معظم العلماء لم يجيزوا التكسب بقراءة القرآن، وقد رفض سقراط أخذ أجر على العلم، كما كان يفعل السوفسطائيون.
وقد نشأ في هذا العصر التعليم الخاص، الأهلي والأجنبي والاستثماري، من دور الحضانة حتى الجامعات الخاصة، وانتهى التعليم الوطني من حيث الكيف، وإن عَظم من حيث الكم، وتم التحول نحو التعليم من أجل السوق، أي التركيز على اللغات الأجنبية والحاسبات الآلية، وليس التعليم من أجل خلق العالم والمواطن الصالح، ولم يعد المتعلم صاحب الشهادة قادراً على كسب المعاش نظراً لتفشي البطالة، وتحول المتعلم إلى عامل بالأجر حتى يستطيع كسب قوت يومه.
إنما المهن مصادر الكسب، هي الفلاحة والتجارة والصناعة، الفلاحة معاش استقرار وانتظار، والرعي معاش حركة وسعي، الفلاحة كسب من الأرض والمطر، والرعي من الارتحال والبحث والعرق، لذا كانت ثورة الفلاحين في ألمانيا خلال القرن السادس عشر (بقيادة المصلح البروتستانتي توماس مونزر)، والمسيرة الكبرى للفلاحين في ثورة الصين، وثورة الفلاحين في فيتنام وتحولهم إلى «جيش الشعب» الذي قاوم الاستعمار الياباني ثم الفرنسي ثم الأميركي، وثورة الفلاحين الشهيرة في المكسيك (بقيادة زاباتا)، وثورة الفلاحين وزراع قصب السكر في كوبا..
ورغم أن غالبية العرب حالياً من الفلاحين، فإن نسبة 75% من غذاء العالم العربي تأتي من الخارج، وبإمكان الأراضي الزراعية على ضفاف النيل وما بين النهرين في العراق وأرض الجزيرة في السودان.. إطعام العالم العربي كله، وتحريره من الاعتماد على الخارج في غذائه.
أما التجارة فعمل غير منتج، لا يخلق سلعاً بل ينقلها من منطقة بعيدة إلى أخرى قريبة، التجارة خدمة وليست إنتاجاً ولا زيادة في السلع بل إعادة توزيع لها، هي نقل لسلع تم إنتاجها من قبل، إنها نشاط مشروط بنشاط آخر؛ زراعي أو صناعي، وفي التجارة يسهل الاحتكار والتلاعب بالأسعار، وهو ما تشهده بعض البلدان في ظل الظروف الراهنة، لذا كانت أخلاق كثير من التجار بعيدة عن المروءة، وقد أصبحت الأخلاق الشائعة الآن في كثير من أنحاء العالم، حيث بات كل شيء تجارة، حتى في المجال الديني، حيث يقول جامعو تبرعات بناء المساجد: «ادفع قرشاً واشترِ قصراً في الجنة».

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة