أحد ثوابت العمل العربي المشترك يجب أن يوضع الآن جانباً، ولو مؤقتاً، والثابت المقصود هو ما يسمى "الأمن القومي العربي". والسبب أن هذا "الثابت" ينتقص أكثر وأكثر من المصداقية المتواضعة التي يتميز بها العمل العربي المشترك. فكثير من السياسات العربية تتصرف وكأنه ليس هناك خطر مشترك، رغم وجود مشاكل مثل، الأمن الغذائي العربي، ومشاكل نقص المياه، أو مشاكل الغزو الثقافي وتهديد الهوية. لكن هذه السياسات تركز أساساً على الناحية العسكرية وتتكلم عن وجود خطر أو تهديد مشترك، ولكنها من الناحية العملية لا تتبع سياسات مشتركة بل سياسات فردية بحتة دون تنسيق على المستوى القومي العام. بعض المحللين يركزون في أسباب انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، على غزو نظام صدام حسين للكويت عام 1990، وهذا بالطبع صحيح، لأنه أظهر بطريقة غاية في الوضوح أن التهديد العسكري لحرمة الأراضي العربية، لا يأتي من خارج المنطقة العربية ولكن من داخلها، أي من بعض الإخوة العرب. ولكن النظرة الثاقبة للتاريخ العربي المعاصر تُبيّن أن حادثة غزو الكويت كانت الأكثر وضوحاً وفجاجة، وإن لم تكن الأولى في عدم احترام الأمن القومي العربي كأحد الثوابت الرئيسية في العمل العربي المشترك. هناك بالطبع بالنسبة لكثير من الأردنيين واللبنانيين السلوك السوري تجاه بلادهم، إذ تم النظر لدمشق على أنها تهديد حقيقي لهذين البلدين. ثم كان هناك أثناء الحرب العراقية- الإيرانية من 1980 إلى 1988 الانقسام العربي، حيث وقفت معظم الدول العربية مع العراق بينما وقفت سوريا مع إيران. وكان هناك أيضاً قبل ذلك خروج الرئيس السادات على الإجماع العربي وذهابه إلى القدس في نوفمبر 1977، ثم توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978، و"معاهدة السلام" المصرية-الإسرائيلية في مارس 1979. وهناك مزيد من الأمثلة التي توضح أن السياسات العربية المشتركة لا تقوم على وجود تهديد مشترك لها، وبالتالي لا تنفذ أو حتى تطرح بإخلاص سياسات أمنية مشتركة. وفي مؤتمر أخير في دولة الإمارات بين نخبة من المفكرين والكتّاب العرب، كان واضحاً أن دول الخليج مثلاً، تشعر أن أهم ما يهددها هو تطور البرنامج النووي الإيراني، بينما بعض الإخوة في سوريا ولبنان يعتبرون عدوهم الأول هو إسرائيل، وينظرون إلى إيران كمساند وحليف في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي! الشعور بالتهديد المشترك -الذي هو أساس أي مشروع للأمن القومي المشترك- غير موجود إذن. هل إذا وُضع شعار الأمن القومي العربي جانباً الآن، لن يكون هناك مشروع آخر يجمع العرب؟ في الواقع فإن الدراسات الاستراتيجية تتداول الآن مفاهيم متعددة لتجعل من مفهوم الأمن ملائماً لسياق العولمة ومتطلبات القرن الحادي والعشرين، حيث لم يعد التهديد عسكرياً فقط أو يأتي من الخارج بالضرورة. ولذلك وجب في هذه الحالة في منطقتنا العربية وفي دول الجنوب عامة، أن نتكلم، ليس عن الأمن فقط بمعناه العسكري، ولكن عن الأمان بمعناه الشامل. وقد كان هذا محور اجتماع أخير بين الأمم المتحدة وباحثين من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وتولى تنظيمه منتدى الجامعة الأميركية بالقاهرة. وخلاصة ذلك الاجتماع الدولي أن الأمان يمكن قياسه بنحو 130 مؤشراً، لكنه يتركز في ثلاثة أبعاد أساسية: الحماية من الخوف، إشباع الحاجات الأساسية للمجتمع، والعيش حياة كريمة في ظل حكم صالح أو رشيد. وقد تختلف الدول العربية فيما يتعلق بدرجة وجود هذه الأبعاد؛ فعدد سكان السودان مثلاً يساوي عدد سكان قطر حوالي 40 مرة، بينما دخل الفرد في قطر يفوق دخل الفرد في السودان 50 ضعفاً، ولذلك فإن درجة إشباع الحاجات الأساسية تختلف. ولكن القطري والسوداني يعانيان من مشاكل متشابهة فيما يتعلق بالسعي إلى الحياة الكريمة والحكم الرشيد والدفاع عن حقوق الإنسان. من ناحية أخرى، فإن مفهوم الأمن بمعناه العسكري، يعتمد على ما نسميه علاقة صفرية، أي إما أنت أو أنا، وبالتالي يُفرّق ويؤدي إلى الصراع وسباق التسلح، بينما مفهوم الأمان يقوي من الأرضية المشتركة والتعاون، ليس فقط بين الأفراد ولكن بين المجتمعات أيضاً. وما أحوجنا لاستخدام مفاهيم حديثة تتلاءم مع القرن الحادي والعشرين، تُجمِّع ولا تفرِّق!