الصعود المفاجئ للحرب الثقافية في سياق الانتخابات الأميركية، جاء على حساب الحوار الجاد، حول الحرب الحقيقية في أفغانستان والعراق. وهذا في الحقيقة يعد أمراً خطيراً، لأن هاتين الحربين تقفان على مفترق طرق حرج في الوقت الراهن. فقد رأينا جميعاً كيف قامت"سارة بالين" في مؤتمر الحزب "الجمهوري"، بوضع سقف أدنى جديد للسياسة الخارجية، عندما حاولت السخرية من مقاربة "باراك أوباما" لموضوع التعامل مع الإرهابيين الدوليين بقولها:"إن الشيء الذي يقلقه هو خوفه من ألا يُملي عليهم أحد حقوقهم"-تقصد الإرهابيين. عفوا سيدة"بالين"، ولكن دعيني أسألك سؤالاً: هل سمعت شيئاً في آلاسكا وأنتِ وسط مراعي الأيائل عن"باجرام"، و"أبو غريب" وعن ترحيل المتهمين إلى بلادهم، والتعذيب بطريقة الإيهام بالغرق، و"جوانتانامو" وبقية تلك الأشياء. أنت يا سيدتي لا تعرفين ما الذي يمكن أن يحدث عندما تختفي تلك الحقوق ولكن من المؤكد أن"جون ماكين" يعرف ذلك تماماً، وهو الرجل الذي قال ذات مرة عقب ليلة كابوسية من التعذيب في فيتنام:"لقد ضربوني ضرباً مبرحاً وبشكل أفظع من أي وقت سابق. واستمروا في ذلك طويلاً حتى أحسست في النهاية بأنني قد انكسرت". إنه إذن رجل يتذكر أنه قد انكسر من التعذيب، ويعرف أن هذا التذكر هو ما كان يدفعه لمعارضة سياسة إدارة بوش في تعذيب المعتقلين. وطالما أنه كذلك، فإن تغاضيه عن تلك الكلمات التي قالتها "بالين" في مؤتمر الحزب يعد أمراً شائناً في الحقيقة. ولكن ذينك الحربين الدمويتين، وعلى الرغم من مضي 7 سنوات بعد الحادي عشر من سبتمبر، لم تتوقفا مؤقتاً على الأقل لتفسحا المجال لهذه المعركة الثقافية العقيمة. ففي أفغانستان، يتصاعد التمرد الذي تقوده "طالبان" سواء من حيث الفعالية، أو من حيث القدرة على الوصول إلى الهدف. هناك حديث يدور في الوقت الراهن، عن إجراء زيادة محدودة في القوات الأميركية، التي يصل عددها في الوقت الراهن إلى 34 ألف جندي، لمواجهة التهديد الذي يتعرض له "الناتو" هناك، وليس معروفاً حتى الآن الحد الذي ستصل إليه بالضبط، وإن كان بعض الخبراء يعتقدون أن 12 ألف جندي إضافي، قد يكون أمراً مفيداً لمواجهة التمرد. وحتى يتم التيقن من العدد الذي سيتم إرساله، فإنني أقول إنني ضد إجراء زيادة محدودة في عدد القوات الموجودة حالياً في أفغانستان. في الوقت الراهن، تنخرط فرنسا- التي أجرت توا زيادة صغيره في أعداد قواتها بأفغانستان- في سجال داخلي محتدم بعد مصرع عشرة جنود فرنسيين معظمهم من سلاح المظلات، شرق كابول في الثامن عشر من أغسطس الماضي( تم نحر واحد منهم على الأقل). وقد أدت الصور التي ظهرت في مجلة "باري ماتش" الأسبوعية لمقاتلي "طالبان"، وهم يرتدون الملابس العسكرية للجنود الفرنسيين القتلى، إلى تأجيج المشاعر الوطنية في فرنسا إلى أقصى حد. في هذا السياق دعت "هيرفيه موران" وزيرة الدفاع إلى" الوحدة الوطنية" في مواجهة التهديد" الذي يجيء إلينا من العصور الوسطى". على رغم ذلك، فإن استطلاعات الرأي التي أجريت تشير إلى أن أغلبية الفرنسيين يفضلون الانسحاب من أفغانستان، كما أن ردود الفعل الفرنسية الصاخبة هذه، ليست سوى تذكَرة بأن حلف "الناتو "في أفغانستان هش، وأن إرسال المزيد من القوات لا يمثل علاجاً لتلك الهشاشة. لقد كان "أوباما" محقاً عندما قال إن حرب العراق، قد جاءت على حساب حملة أفغانستان، وهو شيء يصر "ماكين" بصلف على إنكاره. أما دعوته لإرسال "لواءين مقاتلين إضافيين على الأقل" إلى أفغانستان، ووعده في "دنفر" التي قال فيها إنه "سينهي القتال ضد القاعدة وطالبان في أفغانستان"، فليس ذلك في رأيي سوى تصريحات غير متروية. فالمتوقع بعد ثلاثة عقود من الحرب في أفغانستان، ألا ينتهي نضال الأفغان حتى ولو بعد ثلاثين عاما أخرى. ويرجع السبب في ذلك إلى حقيقة أن أفغانستان دولة ضعيفة محشورة بين إيران وباكستان وهما جاران قويان لا يرغبان الخير لها. وعلى رغم أنه يمكن تحسين مستوى حراسة الحدود الأفغانية- الباكستانية، فإن تأمينها تماماً أمر مستحيل، وهو ما يعني أن المجاهدين سوف يستمرون في المرور عبرها. هذه الحقائق في مجملها لا تعني أن الولايات المتحدة محكوم عليها بإبقاء عشرات الألوف من جنودها هناك لعقود قليلة قادمة، ولكنها تعني أنها قد تضطر إلى الإبقاء عليهم لأربعة أعوام قادمة على أقل تقدير. وعندما تحدثت مع مسؤول عسكري أميركي، كان قد أنهى توا مدة تكليفه التي استمرت 18 شهراً في ولاية "خوست"، قال لي: إن تركيز الاهتمام فقط على زيادة عدد القوات أمر خاطئ، وأن الأولوية يجب ألا تعطى لزيادة عدد قوات الحلفاء وإنما إلى زيادة عدد قوات الجيش الأفغاني بحيث تصل إلى 120 ألف جندي- عددها الحالي لا يتجاوز 60 ألفاً- على الأقل. وأضاف هذا المسؤول أنه إذا ما كان يتعين على القوات الأميركية أن تغادر أفغانستان في نهاية المطاف فإنها يجب أن تكون قد أنجزت أولاً مهمة تدريب هذا العدد من القوات، لأن الأفغان وحدهم هم الذين سيستطيعون كسب هذه الحرب. بناء على ما سبق، أقول إن هاتين الحربين المتشابكتين والعسيرتين يجب أن تسبقا الحرب الثقافية التي تبناها ماكين مؤخراً، وإذا ما كان الرجل يحب ترديد كلمة " قتال" فعليه أن يواصل ذلك" القتال" حول الموضوعات المعلقة، ثم يدع الناس يقررون بعد ذلك. روجر كوهين كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"