حتى وقت تقاعده من وزارة الخارجية الأميركية في وقت سابق من هذا العام، كان نيكولاس بيرنز، باعتباره مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية، هو المفاوضَ الأميركي الرئيسي بخصوص الملف الإيراني. وعليه، فإنه يجوز التساؤل: كم مرة التقى بيرنز مع أحد الإيرانيين خلال السنوات الثلاث التي قضاها في هذا الدور، يا ترى؟ الجواب: ولا مرة واحدة. ذلك أنه لم يكون مسموحاً له بذلك، فقد كان يفترض أن يكون حضوره مكافأة للإيرانيين إن هم قاموا بتعليق تخصيب اليورانيوم والجلوس إلى طاولة المفاوضات. يذكر أن بيرنز، الذي يبلغ اليوم 52 عاماً، التحق بوزارة الخارجية الأميركية سنة 1980. ومن ثم فهو من بين جيل كامل من الدبلوماسيين الأميركيين الذين لم تطأ أقدامهم أبداً إيران، القوة المقلقة في الشرق الأوسط حتى في ظل انخفاض سعر النفط إلى 70 دولاراً للبرميل. ودعوني أقلْها الآن بصراحة ووضوح: إذا كنا جادين بخصوص الشرق الأوسط، فإنه ينبغي أن نفكر ملياً في طريقة تعاملنا مع إيران. لقد تسببت "وول ستريت" في تهميش موضوع السياسة الخارجية في حملة الانتخابات الأميركية، ولكنها ستعود لتحتل الصدارة في يوم الاقتراع. ومن بين الملفات التي ستكون على مكتب الرئيس المقبل حربان صعبتان (العراق وأفغانستان) وجدول زمني ضيق، لا يتجاوز سنتين ربما، لتلافي بلوغ إيران لمرحلة امتلاك قدرات أسلحة نووية. والأجندة التي تنتظره سيطغى عليها الموضوع الإيراني. غير أنه علاوة على المشكلة النووية، التي تستأثر بالأهمية أكثر من أي شيء آخر، فإنه لا يمكن تصور استقرار طويل الأمد في كل من العراق وأفغانستان بدون بعض الاحتواء لإيران، وكذلك الحال في الواقع بالنسبة للسلام في لبنان وحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. وبخصوص طريقة التعامل مع الموضوع الإيراني ذاته، فشتان ما بين رؤية كل من أوباما وماكين. فالأول يقول متحدثاً عن إيران: "ألا تنخرط في الحوار معهم أمر غير منطقي بالنسبة لنا"، في حين يبدو الثاني وكأنه يرفع شعار: "فجِّر، فجر، فجر إيران" مما يعكس النبرة الصِّدامية لخطاباته وتصريحاته المتعلقة بمواضيع السياسة الخارجية. ويبدو أن الدلالة الضمنية لكلمة "البلد أولًا"، وهي الشعار الذي اختارته حملة ماكين، هو: "أما بقية العالم، فهي الأخيرة". ويعتقد بيرنز، على غرار أوباما، أن وقت الحوار مع إيران قد حان، حيث قال لي: "على الولايات المتحدة أن تلتزم باستراتيجية دبلوماسية أكثر طموحاً... فقبل أن ننظر في إمكانية استعمال القوة، علينا أن نظهر أن كل الوسائل والسبل الدبلوماسية قد تم استنفادها. أما إذا جاؤوا إلى طاولة المفاوضات وتلكأوا، فسيكون لدينا تأثير أكبر على الصينيين والروس للدفع في اتجاه فرض عقوبات أكثر وأشد". لقد حان الوقت لإسقاط الشرط المتمثل في أن تعلق إيران التخصيب قبل إجراء أية محادثات لأن هذا الشرط لا يخدم أية أهداف كبيرة -فإيران تستطيع دائماً استئناف التخصيب- ثم إنه شرط يمنح الملالي ذريعة وحجة. كما حان الوقت أيضاً -العام المقبل ستحل الذكرى الثلاثون للثورة الإيرانية- لإعادة النظر والتفكير في المقاربة الأميركية برمتها تجاه طهران. فقد كانت الثورة الإيرانية حركة دينية، ولكنها كانت ترفع شعارات قومية أيضاً ضد تدخلات الولايات المتحدة في البلاد، ومن ذلك انقلاب 1953 الذي خططته "سي آي إيه" ودعم الشاه. وبعض الملالي يدركون أن هذا التعريف مازال يدعم ويقوي سلطتهم، وأن تزعّم إيران لجبهة مناوئة للولايات المتحدة مازال يعتمد بدرجة يزيد الشعور بها أو يقل على قطاعات من الشارع. كما أنهم يدركون مدى نمو القوة الإيرانية خلال السنوات الأخيرة، من خلال خلع الولايات المتحدة لعدوهم اللدود صدام حسين في العراق ووصول الشيعة إلى السلطة في بغداد. ويدركون أن "بعض الجماعات الإقليمية المتشددة المدعومة من قبل إيران باتت اليوم قوى يحسب لها ألف حساب. ويدركون مدى الإجهاد والإنهاك اللذين أصابا الجيش الأميركي من الناحية العسكرية. كما يدركون مدى التفهم للبرنامج النووي داخلياً باعتباره رمزاً لطموحات إيران الإقليمية. وكل هذه الأمور حقائق. وربما تكون حقائق مُرة، غير أنه إذا كان ثمة درس يمكن استخلاصه من سنوات بوش، فهو أن المتاجرة بالأوهام أمر لا يساعد. صحيح أن تكلفة مصافحة باليد مع أميركا مرتفعة بالنسبة للملالي، غير أن إيران لديها أيضاً بعض المصالح المشتركة مع الولايات المتحدة -في تلافي انقسام العراق، وفي تلافي عودة "طالبان" إلى السلطة في أفغانستان، وفي تفادي مواجهة عنيفة بين العالمين السني والشيعي. ذلك أنها تريد الأمن، وفرصاً اقتصادية أكبر، وعلاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة. وكل هذه الأمور قد تقول لي: فكر في الأمر من كل الجوانب، ولا تترك المشكلة النووية على أهميتها، تصبح هاجساً لك عن غيرها. ضع جميع المواضيع على طاولة الحوار وكن واقعياً على نحو: لدينا مصالح، ولديكم مصالح. فهل ثمة نقاط التقاء؟ ثم، لا تعط محاضرات. ولا تعط دروساً. ولا تطالب بكل شيء -إنهاء البرنامج النووي، والإرهاب، والتدخل في لبنان، وفي قطاع غزة- بدون الوسائل اللازمة لدعم مثل هذه المطالب. وذاك في الواقع هو مكمن فشل بوش. أعرف الآن أنني أستطيع سماع الاعتراضات والاستنكارات: ولكن الرئيس الإيراني الموجود إلى حين انتخابات العام المقبل على الأقل، يقول إنه يريد أن يمحو إسرائيل من فوق الخريطة! إنه ينكر المحرقة اليهودية! هذا إضافة إلى أن القوى السنية ستسعى هي أيضاً لامتلاك قنبلة نووية في حال لم تتم إزالة أجهزة الطرد المركزي الإيرانية! لكن لكل هؤلاء أقول: ركزوا على واقع اليوم ببرودة دم، فإيران لم تمتلك قدرات نووية بعد، والوقت قد يكون وقت الحوار. كما أنه قد يكون الوقت المناسب لإيجاد تأييد أعظم من قبل الأميركيين، بصرف النظر عن الانتماءات الحزبية، لإجراء هذا الحوار وضمان استمراره. فكما قال أوباما: "لقد سبق أن تفاوضنا مع ستالين، وسبق أن تفاوضنا مع ماو". روجر كوهين كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"