من بين القضايا الكثيرة التي أصابت العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة بالفتور في عهد إدارة بوش، يعد رفض أميركا الانضمام إلى أول محكمة دائمة في العالم لجرائم الحرب أبرزها وأكثرها ضرراً، حيث يُنظر إلى هذا الرفض كعلامة على الاستخفاف الأميركي بحكم القانون. من بين آخر الخطوات التي خطاها بيل كلينتون كرئيس أميركي، توقيعه على الاتفاقية المؤسِّسة للمحكمة الجنائية الدولية، غير أن التوقيع لم يفضِ أبداً إلى مصادقة الولايات المتحدة عليها. بل إن الرئيس بوش عمد إلى سحب توقيع الولايات المتحدة، ثم تلت ذلك حملة أميركية شعواء لإرغام الدول على التعهد بشكل رسمي بعدم القيام أبداً بتسليم مواطنين أميركيين إلى المحكمة. وقد تبنى توم ديلي، زعيم الجمهوريين السابق في مجلس النواب، موقف بوش-تشيني المناوئ للمحكمة حين أشار إلى "محكمة غير قانونية" تشكل "خطراً واضحاً وقائماً" على الأميركيين الذين يخوضون الحرب على الإرهاب. وعليه، فإنني لا أستطيع أن أفكر في مكان أفضل من المحكمة الجنائية الدولية حيث يمكن للرئيس المنتخب باراك أوباما أن يبدأ بالتأشير إلى تغير المقاربة الأميركية تجاه العالم. إن تأثير الرفض الأميركي للمحكمة، إضافة إلى معتقل جوانتانامو، كان مدمراً حقاً. فالحلفاء من كندا إلى ألمانيا مستاؤون من الرفض الأميركي لهيئة يرون أنها تسعى إلى الخير، هذا في وقت قصدت فيه دول أخرى أصغر حجماً، من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا، بعد الترهيب الأميركي بخصوص موضوع المحكمة، أماكن أخرى بحثاً عن دعم عسكري أو مالي مفقود. لقد حان الأوان كي ننظر من جديد إلى المحكمة الجنائية الدولية. فعلى مدى السنوات الست الماضية، باتت المحكمة تحظى بما يسميه رئيسها الكندي فيليب كيرش "قدراً كبيراً من القبول". واليوم هناك 108 بلدان أعضاء، بما في ذلك بلدان الاتحاد الأوروبي. لتبقى الولايات المتحدة وحيدة من بين القوى الصناعية الغربية الكبرى. لقد ثبت بطلان المخاوف الأميركية الأولى من أن تكون للمحكمة دوافع سياسية تحركها بعد أن ثبت احترامها للمبدأ المتمثل في أنها لا تستطيع ممارسة اختصاصها القضائي إلا حين يثبت أن المحاكم الوطنية غير مستعدة أو غير قادرة على القيام بذلك. فقد رفضت المحكمة، على سبيل المثال، محاولات لجلب جنود بريطانيين في العراق أمام المحكمة بتهمة ارتكاب جرائم مزعومة من قبل المدعي العام لويس أوكامبو. وبالتالي، فعلى أوباما اليوم أن يكون في مستوى المسؤولية ويؤشر إلى التزام جديد في موقفه تجاه المحكمة. فبعد عقد التسعينات الفظيع، بجرائم الإبادة التي عرفها في البوسنة ورواندا وفقدان مليون شخص هناك في وقت كانت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها مترددين، من غير المقبول ألا تقف أميركا مع الهيئة التي تمثل أكثر وسيلة ردع فعالة ضد مثل هذه الجرائم والفظاعات. منذ أن بدأت عملها في 2002 وجهت المحكمة الجنائية الدولية تهماً إلى مجرمي حرب مفترضين في الكونجو وجمهورية أفريقيا الوسطى وأوغندا والسودان. ومن المقرر أن تبدأ المحاكمة الأولى، التي تتعلق بتوماس لوبانجا، وهو أحد زعماء الحرب الكونجوليين، في يناير المقبل. إلا أنه بخصوص موضوع السودان حيث يبرز تناقض السياسة الأميركية تجاه المحكمة. فالولايات المتحدة ترفض إفلات مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية في دارفور من العقاب، والحال أنها ليست عضواً في المحكمة التي تسعى إلى متابعة المسؤولين عن هذه الأعمال. وقد أصدرت المحكمة مذكرات اعتقال في حق أحمد هارون، وهو وزير سابق في الحكومة السودانية، وفي حق علي كشيب، أحد زعماء ميليشيا الجانجاويد. وفي يوليو طالب الادعاء العام التابع للمحكمة بإصدار مذكرة اعتقال في حق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بتهم جرائم الإبادة الجماعية، لكن القضاة مازالوا يبحثون هذا الطلب ولم يصدروا قراراً في الموضوع بعد. عندما سألتُ بروك أندرسون، المتحدثة الرسمية باسم أوباما حول قضايا الأمن القومي، بشأن السياسة التي تعتزم إدارة الرئيس الجديد اتباعها تجاه المحكمة، تلقيتُ عبر البريد الإلكتروني الجواب التالي: "إن الرئيس المنتخَب أوباما يؤيد بقوة جهود المحكمة الجنائية الدولية الرامية إلى التحقيق مع المسؤولين عن الفظاعات في السودان ومتابعتهم قضائيا". وتلك في الواقع بداية جيدة ومؤشر جيد. لكن على أوباما أن يستمر على هذا النهج، وأن يحرص على أن تلعب الولايات المتحدة، حتى وإن لم يكن نيل عضوية المحكمة، دوراً في مؤتمر تقييم المحكمة عام 2010، لأن من شأن ذلك بحث قضايا أساسية مثل كيفية تعريف جريمة الاعتداء، وقد يمتد إلى النظر فيما إن كانت المحكمة تستطيع ممارسة الاختصاص القضائي في حالات تتعلق بالإرهاب وتجارة المخدرات. كذلك على الرئيس الأميركي الجديد أن يعمل على أن تتعاون الولايات المتحدة مع المحكمة بخصوص تقديم المعلومات والمساعدة في جعل مذكرات الاعتقال فعالة لأن تأثير ذلك على مصداقية المحكمة يمكن أن يكون كبيراً جداً. فقط عبر وقوف أميركا مع القانون الدولي يمكن التخلص من آثار الضرر الذي لحق بصورة أميركا وسمعتها بسبب سياسات إدارة بوش. روجر كوهين كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"