قالها لي صديق سعودي منذ أكثر من ثلاثة أعوام:"الكل يحسدنا على ما نمتلكه من البترول، ولكننا نفتقر إلى ما هو أهم من هذا الذهب الأسود: المياه. لا تستطيع أن تشرب البترول، ولكنك قد تموت في الصحراء إذا لم يكن معك كمية المياه الضرورية". هذا منطق بسيط وواضح، ولكننا ننساه في زحمة الأحداث التي تفرض أولوياتها على أجندتنا السياسية أو الاجتماعية. ولكن جاءت الأزمة الأخيرة بين مصر وبعض الدول الأفريقية التي تقع على منابع مياه النيل، لتذكرنا بأن مشكلة المياه في المنطقة العربية، يجب أن تكون على رأس الأولويات، لأنها دون أي مبالغة مشكلة حياة أو موت. ولأن الكثيرين اهتموا بمشكلة المياه قبل أن تنتبه إلى أهميتها الدول العربية، فإن البحث العلمي عن هذه المشكلة أصبح متقدماً، ومن أمثلة هذا التقدم قياس درجة الاحتياج أو استخدام المعروض من المياه بالنسبة للطلب، وكلما زاد الطلب -سواء بسبب الزيادة السكانية أو احتياجات التنمية- ولم يزد العرض، كلما وصلنا إلى مرحلة "إجهاد" مصدر المياه، أي زيادة الضغط عليه وحتى استنزافه، وقد يؤدي هذا الإجهاد والاستنزاف إلى قلة المتاح وحتى ندرته وتوقفه، أي أن الاستنزاف يؤدي إلى النفاد. وبناء على الإحصائيات الموجودة في سنة 2006 -وهي أحدث الإحصائيات المتاحة- فإن حوالي 13 دولة عربية دخلت مرحلة الإجهاد المائي بدرجات مختلفة: من الإجهاد الطفيف (لبنان أو سوريا)، إلى الإجهاد الملحوظ (الأردن أو السعودية) إلى الإجهاد الخطير (فلسطين، البحرين، قطر، العراق) إلى الإجهاد الحرج (الإمارات والكويت). ولحسن الحظ، فإن معظم هذه الدول لم تدخل المرحلة الأخطر، وهي مرحلة الفقر المائي. وفي الواقع، يعلمنا التاريخ أن بعض الامبراطوريات قد اضمحلت ثم اندثرت بسبب جفاف أراضيها، كما أن التاريخ الحديث يُبين أيضاً أن دافعاً مهماً وراء احتلال إسرائيل لبعض الأراضي العربية هو رغبتها أولاً وأساساً في التحكم في مصادر المياه المطلوبة، والتي تعتبرها إسرائيل من أهم تحديات أمنها القومي. كما أن النزاع الدامي المتواصل في دارفور هو أيضاً نزاع بين الجماعات القبلية حول آبار المياه. ولهذا السبب يجب تتبع تطورات أزمة مياه النيل بين مصر والدول الأفريقية، ليس فقط لأن مصر من أكبر الدول العربية، وما يحدث فيها ولها سيكون له تأثير مباشر على المنطقة بأسرها، ولكن أيضاً لكي نتعلم أحسن الوسائل لإدارة هذه الأزمة، التي قد تعصف بدول عربية أخرى، وحتى بالمنطقة ككل في مستقبل ليس ببعيد. فرغم أن الأزمة فرضت نفسها على الصحف ووسائل الإعلام الأخرى منذ حوالي عشرة أيام فقط، فإن الاختلاف بين مصر والسودان (أي دول المصب) من ناحية، والدول الأفريقية السبع (أو دول المنبع) هو ليس جديداً بالمرة. وفي الواقع فإنه في أقل من عام اجتمعت هذه الدول للتفاوض خمس مرات: في كينشاسا عاصمة الكونغو في مايو الماضي، ثم في الاسكندرية في يوليو، ثم في كمبالا عاصمة أوغندا في سبتمبر، ثم في دار السلام عاصمة تنزانيا في ديسمبر، وأخيراً في شرم الشيخ في منتصف هذا الشهر. هذه الكثافة في الاجتماعات تُبين أن هناك موضوعاً ملحاً، ثم عدم الإعلان عن اتفاق بعد هذه الاجتماعات يُبين أيضاً أن المشكلة الملحة لم تجد حلاً، وبالتالي مع مرور الوقت قد تتطور هذه المشكلة إلى أزمة. وهو فعلاً ما يحدث الآن، حيث أعلنت دول المنبع السبع -والتي هي في موقف قوي نسبياً حيث تتحكم في مصدر المياه، بينما مصر والسودان هما دولتا مصب، وبالتالي في حالة تبعية أو اعتمادية- أنها ستوقع على الاتفاقية الإطارية الجديدة التي تنظم استخدام مياه النيل، سواء انضمت مصر والسودان إلى الاتفاقية أم لا. أي بصراحة شديدة: تقول دول المنبع لدول المصب كما يتبجح أحياناً رجل الشارع: "اخبط دماغك في الحيط"! الدرس الأول الذي نستخلصه، هو أنه تم تسويف وتأجيل مشكلة مهمة كان يجب أن تكون من أول أولويات مصر والسودان حتى أصبحت هذه المشكلة أزمة تتعلق بالأمن القومي، وتمس الدولة وجموع الشعب في أقاصي القرى وفي حياتهم اليومية. الدرس الثاني: أنه لا يزال مجهولاً حتى الآن من هو المسؤول فعلاً عن صنع القرار لإدارة المياه، حيث أصبحت أزمة أمن قومي، فهل هي فقط وزارات الري في مصر والسودان، هل وزارات الاقتصاد بسبب التداعيات الخطيرة على الاقتصاد القومي، سواء فيما يتعلق بالصادرات أو الواردات الزراعية، هل هي وزارات الكهرباء بسبب الاعتماد على المياه في توليد الطاقة، هل هي وزارات الخارجية بسبب البعد الدولي لهذه الأزمة؟ مرة أخرى الارتجال هنا واضح في موضوع يمس أمن الوطن والمواطن. الدرس الثالث: لا يقتصر على أهمية مواجهة المشكلة قبل أن تصبح أزمة، أو التنسيق بين أجهزة القرار بدلاً من بعثرتها، ولكن أهمية الاستعداد بعمل سيناريوهات مختلفة لمواجهة الأزمة حسب مراحل تطورها ودرجة حدتها. فمثلاً هناك كلام متسرع وغير مدروس عن احتمال استخدام السودان ومصر القوة المسلحة، وهي آلية غير مناسبة بالمرة لمواجهة هذه الأزمة، وقد يكون حتى مجرد الكلام عنها له أضرار تفوق أي فوائد محتملة. حوالي 65 في المئة من مياه الأنهار التي يعتمد عليها العالم العربي تنبع خارج أراضيه، لذلك وجب ملاحظة ما يحدث الآن ودراسة السيناريوهات المختلفة قبل أن تحيق الأزمة ببقية المنطقة العربية.