لا يبدو أن هناك ما يربط بين عملاقي الفكر هذين، إلا أن الموت قد اختطفهما في وقتين متقاربين، بفارق أسبوع واحد تقريباً. فقد اختطف الموت فِرِدْ هاليداي Fred Haliday في 26 أبريل وهو يعيش خارج وطنه في برشلونة الإسبانية، بينما غاب عنا محمد عابد الجابري في 3 مايو وهو في بلده وبين أهله في المغرب. فارق السن بينهما حوالى 10 سنوات، فبينما جاءت ولادة هاليداي في سنة 1946، ولد الجابري في سنة 1936. هذه الاختلافات ثانوية بالطبع، ورغم أنهما لم يتعارفا مباشرة، فقد سكنا معاً عالم الفكر والتحليل السياسي بإصرار وبعمق، هذا هو الرابط بينهما، وبين كل منهما ومجموعة الباحثين والقراء في أنحاء العالم. أصبح هؤلاء القراء جيوشاً، ليس فقط لأن الجابري نشر حوالى 30 كتاباً، ولأن هاليداي كان له 21 كتاباً، بجانب مئات المقالات ذات التأثير العالمي، ولكن بالإضافة إلى الناحية الكمية، فقد وَلج كل منهما موضوعات أساسية في عالم اليوم. كان التنوع أكثر عند هاليداي، بينما كان الفحص الدقيق والتعمق من نصيب الجابري. فلنتتبع مسيرة كل منهما باختصار شديد. هاليداي سليل أم أيرلندية وأب إنجليزي، لكن العنصر الأيرلندي هو المسيطر على شخصيته: حركة دائمة وانفعال في الخطاب، والحديث على المستوى الاجتماعي، فما بالك عندما يدخل في نقاش سياسي أو أكاديمي، يفكرك كثيراً بنا نحن العرب لما يبدو من حرارة الحديث ودفء التواصل: طباع تختلف كثيراً عن الطباع الإنجليزية التقليدية التي يسيطر عليها الهدوء وحتى التحفظ. كانت معرفتي بهاليداي على البعد عن طريق كتابه "الجزيرة العربية بدون سلاطين"، الذي نشر للمرة الأولى في سنة 1974، ثم طبع عدة مرات، كما تُرجم إلى لغات مثل الإيطالية واليابانية وكذلك الفارسية والتركية، والعربية أيضاً. وكالعادة عندما يترك أحد الكتاب عندك انطباعاً خاصاً، فإنك تتابع كتاباته عن كثب، وأدهشني أنه لا يكتب فقط عن المنطقة العربية أو حتى عن العالم الثالث، بل أيضاً عن نظرية العلاقات الدولية. سرعة البديهة وثورية الشباب التي تميز بها منذ دراسته في جامعة أكسفورد، ظهرت أيضاً في كتاباته، مثلاً عندما كتب عن هجوم مجموعة بن لادن على نيويورك وواشنطن كتابه الشهير "ساعتين هزَّتا العالم". لكن لم يثنه عن الكتابات المتعمقة في نقد نظرية العلاقات الدولية، مثل كتابه "إعادة التفكير في العلاقات الدولية" والذي ترجم أيضاً إلى عدة لغات. جاء أول اتصال مباشر بين هاليداي وبيني عندما نشرت مع بعض الزملاء كتاب "السياسات الخارجية للدول العربية" في عام 1984، ولم يكن هدفي التعليق فقط على الأحداث الجارية ولكن أيضاً المواجهة النقدية مع نظرية صنع السياسة الخارجية ثم الإسهام في تطورها، وطبقاً لهذا الهدف فقد اقترحت ألا تقتصر نظرية السياسة الخارجية على تحليل سياسات الدول فقط، بل أيضاً سياسات حركات ثورية لم تكن دولاً بعد، وكان المثال المقترح منظمة التحرير الفلسطينية وسياستها النشطة آنذاك، وجاء النقد شديداً من جانب بعض الباحثين الإسرائيليين والموالين لإسرائيل والذين هاجموا الكتاب على أنه يخلط بين العلم والسياسة ويعطي الشرعية لما كانوا يسمونه آنذاك "منظمة إرهابية". وبدون أية معرفة بيننا، قام هاليداي بكتابة عرض مفصل لذلك الكتاب، نشره في مجلة "الشؤون الدولية" ذائعة الصيت، والتي يصدرها المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن، وكان في منتهى الكرم فيما يتعلق بالإسهامات الفكرية والتطبيقية للكتاب، وإصراره على أن تحليل السياسة الخارجية لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت يعتبر إسهاماً علمياً. لقد حسم تعليقه النقاش الدائر، وأعاد الكتاب إلى هدفه ومنهجيته العلمية، وعندما قرر الناشر عمل طبعة ثالثة للكتاب في سنة 2008، بعد إضافة ما حدث منذ الطبعة الأولى قبل ذلك بحوالي ربع قرن، استخدم اقتباسات من عرض هاليداي لتسويق الكتاب. لذلك عندما قابلت هاليداي شعرنا أننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل، واستمر التواصل عن طريق طلابنا المشتركين الذين يذهبون من الجامعة الأميركية في القاهرة إلى كلية لندن للعلوم السياسية والاقتصاد والعكس. أما العلاقة مع الجابري فمختلفة بعض الشيء، عرفته أيضاً عن طريق كتاباته وأولها أطروحته للدكتوراه عن ابن خلدون، وأعتبر هذا الكتاب في الواقع من أفضل التحليلات السياسية عن هذا العلامة العربي، ثم تابعت كتاباته عن نقد العقل العربي، حيث التحليل المتعمق في الأسلوب الفلسفي الرصين. أعجبني أنه يحاول بناء جسر بين فكر المشارقة والمغاربة، والتواصل بدلاً من الانفصال، وكان بسبب الفترة الدراسية القصيرة التي قضاها في دمشق من المؤهلين لهذا التواصل. ثم قابلته في "منتدى الاتحاد" وهو ملتقى سنوي تنظمه جريدة "الاتحاد" يلتقي فيه كتاب صفحات الرأي فيها، "وجهات نظر"... فكان على العكس تماماً من هاليداي؛ هادئا وحتى متحفظ، ومثل الكثيرين من الفلاسفة يزن كلماته باهتمام، وقد يؤثر هذا على التواصل بينه وبين الآخرين. حاولت أن أقترح عليه تبسيط بعض تحليلاته حتى يستطيع الطلاب متابعة نظرياته المهمة، لكن لم يتحمس كثيراً لهذا الاقتراح، وقد يشجعه على عدم التغيير أكثر مبيعات كتبه التي ينشرها مركز دراسات الوحدة العربية. وأعتقد أن هذه الكتب عن العقل العربي ستستمر في الانتشار والذيوع، خاصة أننا الآن سنحرم من الإضافة إليها إلا إذا قام آخرون بتكملة مسيرة نقد العقل العربي، والتي بادر بها الجابري منفرداً، لكنها يجب أن تكون عملا جماعياً.