«البيان رقم واحد» هو عادة الإعلان الأول عندما يزداد تدخل الجيش في السياسة في دول العالم الثالث ويصل إلى حد الإطاحة بالسلطة بعد استقطاب أزمة الحكم. في هذه الحالة تعتقد القوات المسلحة -طواعية أو قسراً- أنها القوة الوحيدة المنظمة والتي يقع على عاتقها «واجب» التدخل لإنقاذ الوطن وإخراجه من الأزمة، فهل نحن عشية مثل هذا الحدث أو ما يقاربه في مصر الآن؟ حتى لا ننخدع بالوهم أو اللاواقع، فإن الأزمة المصرية الحالية لا تنحصر في مسألة الإعلان الدستوري الذي أطلقه الرئيس مرسي يوم 22 نوفمبر. فالإعلان الدستوري ما هو إلا أحد الأعراض التي يراها كل منا بالعين المجردة، فجوهر الأزمة وأساسها هو شيء آخر، وهو ما يجب الحفر عنه وتبيانه بوضوح حتى لا ننخدع بالظاهر من الأشياء. ولعل ما يميز هذه الأزمة بين الرئيس وبين جزء كبير من الشارع المصري بقيادة عدد من قدامى الفاعلين في مجال العمل السياسي تمثلهم «جبهة الإنقاذ الوطني»، هو الاستقطاب الحاد، والذي تزايد بعد الإعلان الدستوري المذكور، حيث لا يبدو أن هناك أية نقاط تؤشر إلى وجود أرضية مشتركة، وذلك لدرجة أن الاستقطاب وصل إلى المجتمع نفسه الذي أصبح منقسماً على نفسه بل على وشك أن يتقاتل فيما بينه. وبالإضافة إلى ذلك الاستقطاب الحاد، فقد لاحظنا دخول الجيش هو أيضاً على الخط، ليس فقط من جانب الجيش نفسه الذي أصدر بياناً تحذيرياً أوضح فيه أنه لا يقبل أن يستمر هذا الانقسام الحاد إلى الأبد، وإنما دخول الجيش إلى معترك السياسة الداخلية جاء أيضاً من جانب الرئيس الذي أعطى بعض ضباط الجيش سلطة الضبطية القضائية. وبالرغم من أن هذه الضبطية القضائية مؤقتة، فإن آثارها قد تكون خطيرة لأنها تجر رجال الجيش إلى داخل حلبة السياسة الداخلية ومعاركها اليومية، وقد تزيد من سلطته لكي يصبح عاملاً حاسماً في هذه الحلبة الآن أو في المستقبل. لاشك أن كل ذلك يبين أن هذه الأزمة هي في الواقع أكثر خطورة من سابقاتها، حيث تتم الآن في الشارع المصري المقارنة بين نظام مرسي ونظام مبارك، وحتى المطالبة برحيل مرسي، بالرغم من أنه أول رئيس مدني منتخب في تاريخ الجمهورية المصرية منذ نشأتها قبل ما يقرب من 60 عاماً، وأن انتخابه جاء بطريقة مشروعة ودون التزوير الذي ساد في التجارب السابقة... فإن السؤال المثار في هذا الخصوص هو: لماذا إذن تفجّر الغضب ضد مرسي ورئاسته؟ عندما استقال سبعة من مساعديه ومستشاريه، كانت الاستقالة بسبب عدم استشارتهم، وبالرغم من أن ذلك تصرف صحيح وصائب وقد وقع بالفعل، إلا أنه لا يكفي لشرح الأزمة وبيان أسبابها. والسؤال المهم ليس فقط لماذا لم يستشر مساعديه ومستشاريه؟ ولكن أيضاً -وهذا هو الأهم في نظري- كيف اتخذ الرئيس قراره؟ وعلى من اعتمد في استشاراته؟ هذا هو جوهر الأزمة. إن هناك شعوراً بأن الرئيس الذي انتخبه الشعب في انتخابات حرة لا يمثل كل المصريين أو لا يتواصل معهم، بل يمثل -طواعية أو قسراً- الجماعة التي رشحته للرئاسة: تيار الإسلام السياسي كما هو متمثل في جماعة «الإخوان المسلمين» وذراعها السياسية «حزب الحرية والعدالة»، إلى جانب حلفائه داخل نفس التيار... فهؤلاء هم «عشيرة» الرئيس وأهله. وبما أن هذه الجماعة وتوجهاتها السياسية لا تحظى بالإجماع في المجتمع المصري، فقد أصبح الرئيس محل عدم ثقة في تمثيله لكل المصريين، طبقاً لما يقوله معارضوه. والنتيجة من ذلك إذن هي أن الخلاف مع الرئيس لا يقتصر على الإعلان الدستوري بل لم يعد حتى خلافاً سياسياً، وإنما صراعاً عقائدياً مجتمعياً يشبه الحروب الثقافية أو ما سمي أحياناً -مع الفارق بالطبع- «صراع الحضارات». وجاء دخول السلفيين على الخط ضد الإعلاميين مثلاً، ثم دخول المرشد العام لجماعة «الإخوان المسلمين»، وكذلك نائبه خيرت الشاطر، ثم حديث كل منهما كأنهما يمثلان السلطة العليا في البلاد، بل حتى أعلى من رئيس الجمهورية نفسه... جاء كل ذلك ليؤجج ويزيد من هذه الحرب الثقافية ومن شعور البعض بعدم الثقة إن لم يكن عدم الأمان في ظل وجود الرئيس الحالي وجماعته. وفي واقع الأمر قد يكون مرسي في وضع صعب: بين واجبه وحتى رغبته في أن يمثل كل المصريين، وبين ضغوط «عشيرته وأهله» في أن يمثل خط الإسلام السياسي الذي يعتقد أنه وصل للحكم بعد طول انتظار، وبالتالي فهو يحاول أن يستثمر هذه الفرصة لتشكيل الحكم وحتى المجتمع طبقاً لرؤيته. لكن كيف يتصرف مرسي وهو بين شقّي الرحى والضغوط الكبيرة من الناحيتين؟ وكيف ستكون تضاريس الأزمة القادمة؟ وما دور القوة المنظمة الوحيدة الباقية، أي الجيش؟