هناك من المدن التي يكون اسمها أكبر كثيراً من عدد سكانها لأنها اكتسبت شهرتها بسبب قيمة عالمية معينة، وفي هذا المجال تقفز إلى الذهن مدن، مثل أكسفورد أو كامبردج اللتين ارتبط اسم كل منهما بإشراق جامعاتها منذ قرون عديدة. كما تقع جنيف في هذه الفئة من المدن الصغيرة، والتي تفوق شهرتها حجمها بكثير جداً، فلا يتعدى تعداد سكان جنيف من المواطنين السويسريين193 ألف نسمة، لكن المقيمين بها أكثر من ضعف مواطنيها. وبالرغم من أن جامعة جنيف هي فعلاً من الجامعات العريقة جداً التي عرفتها عن قرب، كما أنها تضم أيضاً معهد الدراسات الدولية والتنمية العليا الذي يرجع تاريخ إنشائه إلى فترة عصبة الأمم المتحدة في عقد العشرينيات من القرن الماضي... رغم ذلك فإن شهرة جنيف واكتظاظها بهذا العدد من الأجانب يرجع إلى أسباب أخرى غير الشهرة العالمية لجامعة جنيف، أو معهد الدراسات الدولية العليا. فالكثير من أولئك الأجانب هم من الشريحة الثرية في العالم، فمعظم مدن سويسرا -وليس فقط جنيف- تعيش على الحسابات البنكية والحسابات السرية التي تسمح لكبار رجال السياسة، وكذلك بعض المرتبطين بالجريمة المنظمة من مخدرات، وغيرها من أعمال المافيا،... باكتناز أموالهم في البنوك السويسرية. ومن المعروف أنه بعد «الربيع العربي» تقوم أنظمة الحكم الجديدة في بلاد، مثل تونس ومصر بمحاولة استرداد بعض الأموال التي قامت بنهبها بعض أنظمة الحكم السابقة. وبالرغم من أن البنوك السويسرية تستخدم الكثير من الحيل «القانونية» للاحتفاظ بأموال الديكتاتوريات التي سرقت شعوبها ومصت دماءها، فإن هناك أعداداً كبيرة من الأجانب الذين يوجدون في جنيف، أو توجد أموالهم في بنوكها، وهم ليسوا جزءاً من المافيا السياسية الدولية، أو مافيا المخدرات أو الجريمة، بل هم رجال أعمال أو موظفون دوليون. تاريخياً، وفي العام التالي على نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918، ثم الاتفاق بين الدول الكبرى على اتخاذ كل الوسائل الكفيلة بعدم تكرار هذه المذبحة العالمية التي أدت إلى قتل الملايين، وإصابة ملايين آخرين بعجز دائم، فكانت إحدى الوسائل المقترحة لمنع تكرار الحرب هي إنشاء منظمة عالمية تعمل على حفظ السلام، وهكذا أنشأ العالم عصبة الأمم المتحدة، وتم اختيار جنيف مقراً للمنظمة الدولية الوليدة. لكننا نعرف أيضاً أن تلك المنظمة الدولية لم تستطع منع قيام الحرب العالمية الثانية، والتي بالطبع أدت أيضاً إلى موت عصبة الأمم. إلا أن مبدأ وجود منظمة دولية لم يمت، وبالتالي حتى قبل استسلام ألمانيا الهتلرية ونهاية الحرب، تم الاتفاق على إنشاء منظمة الأمم المتحدة من 51 دولة حينئذ، وكان من بين أعضائها المؤسسين السعودية ومصر واليمن. وخلافاً لتجربة عصبة الأمم، فقد تم اختيار نيويورك مقراً للمنظمة الأممية الجديدة، غير أن جنيف لم تفقد أهميتها، فقد أصبح المقر القديم لعصبة الأمم هو المقر الأوروبي للمنظمة الدولية الجديدة، ومع مرور الوقت استمرت جنيف المقر الرئيسي لكثير من المنظمات الدولية: من منظمة الصحة العالمية، إلى اتحاد المواصلات العالمي، إلى مفوضية اللاجئين، وأخيراً منظمة التجارة العالمية. بل وأصبحت جنيف مقراً لمنظمات دولية أخرى، وإن كانت غير حكومية؛ مثل مؤتمر دافوس الذي هو اسم ضاحية ليست بعيدة عن جنيف. وفي الواقع فإن دافوس ما هي إلا مثال واحد فقط، لأن جنيف تعج الآن بكثير من المنظمات غير الحكومية، وكذلك بنوك التفكير ذات الطابع العالمي، من قبيل مركز جنيف للسياسات الأمنية، وكذلك مركز جنيف للإشراف الديمقراطي العالمي. وتأتي كل هذه المقدمة عن الصيغة الدولية الدولية، بل العالمية لهذه المدينة الصغيرة التي لا يتعدى عدد مواطنيها عدد سكان أحد الأحياء في مدينة القاهرة، للكلام عن المؤتمر الدولي العاشر لمنتدى الأمن العالمي، مع عدد من الهيئات والمؤسسات السويسرية الأخرى ذات التوجه العالمي، وهو مؤتمر هام؛ سواء بسبب عدد المتحدثين والمشاركين فيه أو بالنظر إلى موضوعه. فكان الموضوع هو «مواجهة عالم من التحول والتغير»، أي تحدي التحول الدائم من «القرن الآسيوي» إلى «الربيع العربي» إلى «التموجات الأوروبية» من قبرص إلى الدول الإسكندنافية. وقد قام بمعالجة موضوعات المؤتمر، والتي تنصب على أسباب التحولات وكيفية مواجهتها، ما لا يقل عن 128 متحدثاً من الخبراء، أما من اشتركوا في المناقشات فبلغ عددهم نحو 1281 من الأكادميين وصناع السياسة من مدنيين وعسكريين، بالإضافة إلى بعض الشخصيات العالمية المرموقة... وذلك على مدى ثلاثة أيام من العصف الذهني والنقاش العالمي النشط، جعلت جنيف في مركز الصدارة العالمية، أكاديمياً وسياسياً. هكذا تصبح المدن الصغيرة في حجمها، كبيرة في إشعاعها، وربما يكون في تطور جنيف ما يصح أن يكون مصدر إلهام لبعض مدننا العربية.