القراءة بوابة العقل لإدراك الحياة، وفهم الوجود، واستيعاب العلاقات التي تربط الإنسان بكل ما يحيط به من مكونات حياتية. نخطئ كثيراً حين نحصر القراءة في مطالعة الكتب فقط، فالقراءة هي الفعل الإنساني الذي يتفرد به العقل البشري ليكون قادراً على التعرف على المعاني وتحليل دلالاتها للوصول إلى الفكرة، وإضافة رصيد معرفي للعقل ليكون قادراً على استحضاره حين الحاجة إليه، ولا تكمن المعاني فقط في الكتب، فالعقل قادر على القراءة البصرية للمشاهد الحياتية التي تحيط به، وقادر على أن يقرأ محاورات الآخرين ونقاشات الجلساء، ويتسمع لأصوات الموجودات الكونية ليكمل العقل سلسلة إجراءاته الذهنية لتنمية رصيده المعرفي. إن جعل القراءة مكوناً أساسياً من مكونات الحياة للأطفال هي الخطوة الأولى لطريق طويل لخلق أجيال عارفة قادرة على التعامل مع كل متغيرات الحياة التي ستطال مستقبلهم، فمعطيات حياتنا اليوم تختلف عنها بعد عشرات السنين، ودون المعرفة القادرة على التجديد والابتكار والإبداع تظل الأجيال مقيدة برصيد معرفي ساكن. فكل كتاب يُقرأ هو رصيد تراكمي يزيد من تفتح مدارك العقل، وتوسيع زوايا الرؤية للحياة وتفجير مكامن الطاقات الإبداعية والعقلية مما يكون له الانعكاس في خلق أجيال قوية منفتحة على ثقافات العالم وتكون رقعة مضيئة في فسيفساء الفكر الإنساني. تسابق الجميع من مؤسسات حكومية وغير حكومية في طرح المبادرات والفعاليات التي تدور داخل إطار، (عام 2016 عاما للقراءة)، سعياً لوضع الخطوات الأولى لتنشئة أجيال قارئة وعارفة ومبدعة لتحافظ على مكتسبات الوطن الحضارية التي تحققت. وهنا أتوقف عند محورين مهمين من شأنهما تعظيم التأثير الإيجابي لزخم القراءة والثقافة في المجتمع حالياً: المحور الأول، وهو تحويل القراءة إلى طاقة منتجة وإبداعية، حيث يجب أن تكون مبادراتنا في تعليم الأطفال والأجيال الناشئة وتحويل القراءة إلى عادة يومية مشمولة بتعليمهم كي يمكنهم استنهاض طاقات العقل المخزونة في التجديد والإبداع والابتكار في كافة المجالات الثقافية والعلمية والفكرية، هكذا صنعت القراءة في الحضارة الغربية المتقدمة. فقد استطاعت المجتمعات الغربية في خطواتها الأولى نحو التقدم أن تستنفر في عقول أجيالها الناشئة طاقة الإبداع والتطور، وتحولوا من فلسفة القراءة الإتباعية إلى فلسفة القراءة الإبداعية التي تطور الرصيد المعرفي وتنميه بالإبداع والإضافة والتطوير. والمحور الثاني سؤال هو الأهم خلال هذه الفترة وهو (وماذا بعد عام 2016؟)، لكي نحافظ على هذا الزخم الثقافي، وكيف يمكن تحويل المبادرة لتكون نقطة البداية لإستراتيجية تشاركية بين مؤسسات الدولة والمؤسسات غير الحكومية وشبه الحكومية المعنية بالتنشئة الثقافية للأجيال القادمة، ونضع من خلالها رؤية مستقبلية، ونتعمق في رؤيتنا للقراءة لتكون أبعد من قراءة الكتاب فقط، لتكون استراتيجية جامعة لتطوير كل منافذ القراءة كما سبق وأوضحت، لنسهم في تكوين أجيال قارئة ومن ثم عارفة وقادرة على الابتكار والإبداع وواعية بموروثها الثقافي والديني والأخلاقي، ومدركة لقيمة التطور والحضارة والتمازج الإيجابي التأثيري والتأثري مع كافة الثقافات الإنسانية الأخرى. أطلق دعوتي لكل المهتمين والمعنيين بمستقبل القراءة لنحافظ على مكتسبات «مبادرة عام القراءة»، ووضع استراتيجية مستقبلية، وتحويل تلك الجهود المتفرقة إلى مظلة تشاركية مستدامة تنطلق وتساهم في إخراج عقول أبنائنا الذين هم عماد الوطن في المستقبل إلى نور المعرفة، ووهج الابتكار والتطور لتستمر قدرات المجتمع الإماراتي الفريدة في تحويل الأحلام إلى واقع يزيد من التطور والبناء، واستمراراً لمسيرة عطاء ممتدة عبر تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة. ـ ـ ـ ـ *باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي