عبرت أستراليا الأزمة المالية العالمية لعام 2008 على قارب من وفرة هائلة في المعادن. والبلد حسن الطالع والغني بما يكفي لينعم بالراحة، أثبت أنه محظوظ مرة أخرى. فبعد الزراعة والصوف، جاء الفحم وخام الحديد. وفي الولايات المتحدة، يشيع التظاهر ببذل الجهد والانخراط في العمل الجاد، فالأميركيون يروقهم التظاهر بأنهم يعملون كل الوقت. لكن في أستراليا، هناك تظاهر بعدم بذل الجهد. فالأستراليون مصرون على التظاهر بأنهم لا يعملون بجد شديد. وأحياناً تكون الحال هكذا. لكن بعض القلق المتوطن في العالم المتقدم، مع فقدان الوظائف في الصناعة وتقلص فرصه، تسرب إلى التكوين النفسي الأسترالي الذي كان بعيداً عن القلق. فقد انتهى منجم الثراء من المعادن والبضائع الأولية. والوظائف المرتبطة بالخدمات ذهبت إلى الخارج مع فرص العمل في الصناعة. وبالنسبة لكثيرين من الأستراليين الشباب، فالطريقة الوحيدة لدخول سماء سوق الإسكان في سيدني المتضخمة بسبب المشترين الصينيين الساعين للتمتع بحكم القانون هي الانتظار حتى موت الآباء. والبطالة ليست مرتفعة، لكن عدم ملائمة الوظائف مرتفع. وأستراليا هي حليف أميركا في منطقة يتزايد فيها النفوذ الصيني، وهذا قد يمثل إشكالية. والغد غير واضح. فهل انتهى زمن الحظ الأسترالي؟ هل البلاد أصبحت جاهزة لسياسات الغضب التي تبلى بلاء حسناً هذه الأيام من الولايات المتحدة إلى النمسا؟ رئيس الوزراء المحافظ "مالكولم تيرنبول" يؤكد أن هذا أفضل وقت ليكون فيه المرء أسترالياً. فالأسترالي يساهم بحظ بوافر في الابتكار الرقمي، وحقق ثروة كبيرة، وتعاوناً بين الجامعات الكبيرة والبحث العلمي والصناعات الإبداعية. وذهبت وفود وزارية إلى إسرائيل ليتعلموا كيف يمكن تحويل أستراليا "المسترخية" التي تعتقد أن الأمور تحدث من نفسها بطريقة ما- إلى أستراليا تأتي بأفكار جديدة. وهذا يزعج البعض. وكل هذا يمثل الأرضية التي تدور عليها الانتخابات التي ستُجرى في يوليو المقبل، والتي يواجه فيها "تيرنبول" وحزبه المحافظ "بيل شورتن" من حزب "العمال" المعارض. ويعد "تيرنبول" بأستراليا أكثر ميلاً للاستثمار بينما يعد "شورتن" بأستراليا أكثر عدلاً. وتعهد حزب "العمال" بإضفاء مشروعية على زواج المثليين والتصدي لتغير المناخ، وهي قضايا لا يتصدى لها "تيرنبول"، وتغير المناخ مجرد هراء عند الجناح اليميني من حزبه "الليبرالي" المحافظ بزعامة رئيس الوزراء السابق "توني أبوت". وصحيح أنه حل محل "آبوت" في منصبه لكن "تيرنبول" اتبع بصفة عامة نهج أبوت. والقضية الوحيدة التي تتفق عليها الأحزاب فيما يبدو، هي تبني موقف متشدد تجاه اللاجئين الذين يحاولون الوصول إلى أستراليا بالقوارب، لينتهي المطاف بهم إلى حالة من الضياع في جزر المحيط الهادي اللافحة الحر التي ينتظرهم فيها اليأس وإيذاء النفس والموت. وهذه السياسة التي لا يمكن الدفاع عنها تعكس أيضاً القلق. واستراليا تتجلى فيها علامات على انقسام جوهري في المجتمعات المتقدمة اليوم بين صفوة حضرية دولية صاحبة قيم اجتماعية تقدمية وبين "أولاد البلد" الغاضبين المرتابين في الأجانب والمستائين من العولمة والخائفين من التغيير والقلقين على مستقبل أولادهم. والواقع أن "أبوت" بمثابة سابقة ما لـ"دونالد ترامب". وتتلخص شعارات الزعيم الأسترالي في عبارتين وهما "أوقفوا القوارب" التي تقل مهاجرين، و"أزيلوا الضرائب" المفروضة على انبعاثات الكربون. و"ترامب" لديه شعارات تتألف من ثلاث كلمات أيضاً ونعوت من كلمتين مثل "ماركو (روبيو) الصغير" و"تيد (كروز) الكاذب"، و"هيلاري (كلينتون) النصابة" وغيرها. لكن "ترامب" أمعن درجات عن "أبوت" في دناءة عملية حشد الدهماء. البشرية، إذن، تظهر وجهها الآخر. فسطوة اقتصاد الليبرالية الجديدة الذي يحابي الأغنياء في المجتمعات الغربية ومغادرة وظائف الصناعة لبلادها الأصلية وركود الأجور والتدفقات الكبيرة من اللاجئين القادمين من مناطق الحرب والمنافذ الإعلامية القبائلية الطابع وانتعاش الأيدولوجية الإسلامية المتشددة المعادية للغرب في العالم العربي بأنظمته السياسية المنغلقة، كل هذا خلق ظروفاً شبه مثالية لشعبويين يمينيين من أمثال "أبوت" و"ترامب"، وفي الولايات المتحدة، فإن خوض حربين من دون تحقيق انتصار كبّد البلاد الغالي والنفيس من الدماء والمال، وهي حروب قاتلت فيها أستراليا كالمعتاد إلى جانب أميركا، وشاركت في مزاج الاضطراب. وحين تنحسر سلطة قوة عظمى وتتغير طبقات تكوين النظام العالمي ينتاب العالم عادة رعشة خطر. أستراليا بضخامة حجمها التي كان بعدها عن العالم يحميها ويسبب لها مشكلات في الوقت نفسه، تراقب التطورات السياسية الأميركية والأوروبية من بعيد. لكنها ليست في حصن منيع عن الغضب الجديد- مثل إذعان تيرنبول لآبوت. وهذا دليل على الحاجة إلى توخي أقصى درجة من الحذر في عالم التقلب العنيف. ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ *محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"