في السياسة، كما في الحياة، هناك مسألة الرفقة. بعض أصدقائي أشخاص عقلانيون يدفعون بحجج عقلانية حول ضرورة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فيقولون إنه يفتقر للشفافية، وإن اتحاداً يضم نادياً داخلياً لدول تعتمد عملة موحدة، ودولاً أخرى بدونها، يمثل منظمة تخدع الناخبين لأن ذلك غير نزيه أخلاقياً. ولا شك أن دول اليورو تحتاج لاتحاد سياسي أكثر قوة حتى يمكن لليورو الاستمرار، لكن دولاً أخرى، مثل بريطانيا، لا تريد ذلك. كما يحاججون بأن الاتحاد الأوروبي غير ديموقراطي ويديره موظفون بيروقراطيون لا يخضعون للمحاسبة، وبأن بريطانيا تستطيع بطريقة ما «إعادة إنتاج نفسها»، والتغلب على الجغرافيا، وتحدي بعض التنبؤات حول كارثة اقتصادية تصيبها، عبر الارتباط بأجزاء سريعة النمو من العالم الناشئ، بعد أن تدير ظهرها لأوروبا التي تعاني الركود. إني مستعد للإصغاء لهذه الحجج جزئياً فقط، وإنْ كانت تتعلق غالباً بأمور ثانوية وصغيرة، حتى لا نقول تافهة، عندما تقارن بالإنجاز الكبير المتمثل في أوروبا من دون حدود تنعم بالسلام، وسوق يبلغ حجمه نصف مليار نسمة، وعقود من الرخاء والازدهار المتزايدين منذ انضمت بريطانيا إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1973، ومكانة بريطانيا في العالم كزعيم داخل أوروبا موحدة بدلاً من أن تكون معزولة في القناة البريطانية. صحيح أن الاتحاد الأوروبي عاش عقداً صعباً، حيث عانى بسبب العيوب البنيوية لليورو والرد الضعيف على الأزمة المالية في 2008، كما يواجه صعوبات متواصلة في استيعاب دول الكتلة الشيوعية السابقة ومشكلة الهجرة الجماعية، وهو في حاجة لتجديد من النوع الذي تستطيع بريطانيا قيادته. بيد أن الاستفتاء البريطاني لا يتعلق بأي شيء من هذه الأمور، بل يتعلق بالتعصب القومي المتشدد الذي يدور حول فكرة «عزل بريطانيا»، وبالخطاب المناوئ لأوروبا الذي يصدر عن صحيفة «ذا دايلي ميل» (غالباً بالاستناد إلى ادعاءات جد واهية لدرجة أنها قد تجعل ترامب يشعر بالخجل)، ولؤم حزب الاستقلال البريطاني، الذي كتب على ملصقه الأخير عبارة «لحظة الانهيار» إلى جانب لاجئين بسحنات داكنة، وبالانتقادات الشائنة لعمدة لندن السابق بوريس جونسون الذي لم يجد حرجاً في تشبيه مخططات الاتحاد بمخططات هتلر، وبغضب القوميين المتشددين الذين تزعجهم العولمة لكنهم يختارون صب جام غضبهم على بروكسيل وعلى البؤساء الناجين من الحرب السورية. وبعبارة أخرى، إنه يتعلق بسم. وذاك السم أدى إلى قتل جو كوكس، النائبة عن حزب العمال المعارض والأم لطفلين، قبل بضعة أيام، من قبل رجل صاح «بريطانيا أولاً!». كوكس، التي كانت نجمة سياسية صاعدة، كانت قد خاضت حملة مؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وأعلنت في خطاب لها من البرلمان أن بلدات وقرى منطقة يوركشر التي كانت تمثلها «تحسنت كثيراً بفضل الهجرة، أكانت هجرة الكاثوليك الأيرلنديين عبر الدائرة الانتخابية أو هجرة مسلمين من الهند وباكستان». وما أذهلها هو «أننا موحَّدون أكثر وتجمعنا أشياء مشتركة أكثر من تلك التي تقسّمنا». المتهم بقتلها، توماس ماير، قدّم نفسه لدى مثوله أمام المحكمة باسم «الموت للخونة، الحرية لبريطانيا». وقال ممثلو الادعاء العام إنه صاح: «حافظوا على استقلال بريطانيا» عندما هاجم كوكس. وعند تفتيش منزله، عثر على مطبوعات حول منظمات يمينية متطرفة وأخرى عنصرية. أجل، في السياسة هناك أيضاً مسألة الرفقة! فأولئك الذين يدعون إلى انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مستعدون للتحالف مع متعصبين معادين للأجانب مثل ماير. لقد اختلقوا أكاذيب وافتراءات حول أوروبا والأجانب من أجل حملة تدعو لإخراج بريطانيا وإعادتها إلى أرض أحلام متخيلة لمجد غابر. هذه ليست بريطانيا التي أعرف. هذه ليست بريطانيا التي احتضنت والدي المهاجرين القادمين من جنوب أفريقيا وسمحت لهما بالنجاح والازدهار. وهذه ليست بريطانيا التي يمثل اتحادها (إنجلترا، واسكتلندا، وويلز، وأيرلندا الشمالية) نموذجاً للاتحاد الناجح. وهذه ليست بريطانيا التي تُعتبر عاصمتها، لندن، ربما أعظم مدينة في العالم بفضل الانفتاح الذي جعلها وطناً لكل لسان. «انهضي يا جو»، هكذا قالت مساعدة كوكس، «فضيلة أصوت»، للسياسية التي كانت تحتضر بعد إصابتها. فأجابتها كوكس: «لا أستطيع، ألمي كبير»، وكانت تلك آخر كلماتها. هيا يا بريطانيا انهضي! من أجل كوكس، ومن أجل طفليها، ومن أجل «أصوت»، ومن أجل تاريخ الانفتاح البريطاني المجيد، انهضي! انهضي، وارفضي مروِّجي الأكاذيب، وصوِّتي للبقاء في الاتحاد الأوروبي. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»