منذ أعوام قليلة كتب الفنان الموسيقي «بروس سبرينجستين» أغنية عنوانها «نحن نهتم بأهلنا» كانت كلماتها ولحنها، مفعمين بالتفاؤل والفخر. كان المقصود بالعنوان، أننا نهتم بأهلنا وأقرب الناس إلينا، ولكن وكما هو الحال في الكثير من أغاني «سبرنجستين» هناك نوع من التوتر بين كلمات الأغنية ذاتها، وبين النبرة التي تُردد بها الجوقة الموسيقية تلك الكلمات. ففي كلمات الأغنية كان من الواضح أن المقصود بـ«الاهتمام بأهلنا» أننا لا نهتم بمن هم ليسوا من أهلنا كضحايا إعصار كاترينا، وهو ما وسم تلك الكلمات حين ظهور الأغنية، بمسحة إقصائية، ومهددة، بل وعنصرية أيضاً. وهذه العبارة -والمعنيان المختلفان اللذان يمكن أن تنطوي عليهما- لها ارتباط وثيق بانتخابات 2016، بل ويمكن أن تحتل موضع القلب منها. فأنصار «ترامب» يمثلان المعنى الأول، وهو أن ولاء أميركا يجب أن يكون لعمالها، وثقافتها، ومواطنيها في المقام الأول. هذه النظرة إلى العالم لا تعبر عن الأنانية فحسب، ولكنها تنطوي على معانٍ أخرى، ذلك لأن الحقيقة هي أنه في معظم فترات التاريخ الإنساني كان معظم الناس يقدرون المجتمعات المتماسكة، ويضعونها في منزلة لا تفوقها منزلة أخرى. وخلال تلك الفترات التاريخية الممتدة بنى الناس في المجتمعات المختلفة منظومات أخلاقية قائمة على الولاء والدعم لأقاربهم وإخوانهم المواطنين. وهذه الروابط لا تنبني على عقد اجتماعي مجرد وإنما هي روابط حميمة نابعة من القرابة المشتركة والتاريخ والجغرافيا والفهم المشترك للصواب والخطأ. والناس المؤمنون بأهمية تماسك المجتمعات سيجاهدون من أجل الدفاع عن الأعراف التي تُبقي تلك المجتمعات متماسكة. وهم من هذا المنظور سيقبلون المهاجرين الذين يذوبون في الثقافة السائدة، ولكنهم سيتشككون في المهاجرين الذين يشعرون أنهم قد أحضروا معهم عادات وتقاليد غير منسجمة مع تقاليدهم الخاصة وتهدد بتمزيق نسيجهم الاجتماعي. عبر القرون والحقب كانت هذه، تقريباً، هي المنظومة الأخلاقية التقليدية لمعظم الجنس البشري. ولكن، وكما يقول«جوناثان هايدت» أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة نيويورك، في مقالة رائعة كتبها في مطبوعة «أميركان إنترست»، برزت عقلية مختلفة تماماً عن هذه العقلية خلال العقود الماضية. وأصحاب هذه العقلية يثمّنون الفرد المتحرر، ويضعونه في منزلة تفوق منزلة المجتمعات المتماسكة. وهم أيضاً يثمّنون حرية التعبير، والحرية الاجتماعية، والتنوع. ومنظومتهم الأخلاقية لا تقوم على الولاء للأشخاص القريبين منهم، وإنما تقوم على المساواة بين البشر في كل مكان. وأصحاب هذه العقلية يزدرون الجدران السياسية والدينية التي تقسم البشر، كما يتوقفون حذرين عند المضامين الإقصائية التي تنطوي عليها عبارة «نحن نهتم بأهلنا»، التي كانت هي عنوان الأغنية المشار إليها، ويرون أنه لشيء جيد أن نثمّن الأميركيين، ولكننا يجب أيضا أن نقبل المهاجرين، ونحرص على التعددية، والتنوع في علاقاتنا الخارجية. يرى هايدت أن التقسيم بين هذين المعسكرين، هو تقسيم في الحقيقة بين الوطنيين والعولميين، وهو في الآن ذاته تقسيم بين الأخلاقيين ذوي النزعة «الخصوصية» وبين الأخلاقيين ذوي النزعة «الكونية»، أي بين هؤلاء الذين يؤمنون بأن رابطة الدم والروابط التاريخية يجب أن يكون لها الأولوية، وبين هؤلاء-مثل الفيلسوف بيتر سينجر- الذين يرون أن درجة ولائنا وتعاطفنا مع طفل يتضور حتى الموت من الجوع في جنوب السودان يجب أن تكون مماثلة تماماً لدرجة ولائنا وتعاطفنا مع طفل يغرق في بحيرة أمام أنظارنا. لعقود طويلة ظلت العقلية العولمية المؤيدة للهجرة والمؤيدة للعولمة بشكل عام ماضية باطّراد في طريقها. أما الآن، ومع مقدم دونالد ترامب، فإن أنصار نزعة الخصوصية بدؤوا في رد الهجوم على أنصار النزعة الأخرى، وهو ما ترتب عليه تحول الهجرة إلى موضوع مهيج للغضب. يشرح هايدت ذلك بقوله: بحلول صيف 2015 (عندما تفاقمت أزمة اللاجئين السوريين)، كان المعسكر الوطني قد وصل بالفعل إلى نقطة الغليان الذي دفعته للصراخ «لقد طفح الكيل، أغلقوا الصنبور!» فرد عليهم العولميون بالقول «دعونا نفتح الباب على مصراعيه، فهذا هو الشيء الإنساني الذي يتعين علينا القيام به، وإذا ما عارضتمونا فستكونون عنصريين». أليس ذلك كفيلاً بدفع الناس، حتى المنطقيين منهم نسبياً، إلى الغضب؟ الحقيقة أن كل عقلية من العقليتين لها فضائلها: فأنصار الخصوصية يشددون على مشاعر الحب الحميم والولاء، التي تشكل مادة المجتمعات الحقيقية. أما أنصار العولمية، فباتوا يتأثرون بمظاهر عدم العدالة والمعاناة في أي مكان، ويشعرون بالصدمة من عدم الفعل واللا مبالاة السائدين تجاهها. مأساة هذه الانتخابات، هي أن أميركا قد حلّت هذه المشكلة بالفعل. يرجع ذلك لأننا، وعلى النقيض من فرنسا والصين، قد نشأنا منذ البدء كأمة عولمية، يمكنك فيها أن تكون وطنياً حتى النخاع، وأن تكون منفتحا نسبياً، لأن كيان الأمة ذاتها، تأسس حول مبدأ قبول الناس من مختلف أنحاء العالم، وتوحيدهم حول شيء جديد. من سوء الحظ أن قوى التعددية الثقافية قد دمرت الالتزام بالوحدة الثقافية، وهو ما جعل ترامب قادراً على تقويض نزعة الوطنية الأميركية ذات الميول العالمية، واستبدالها وطنية أخرى بها تقوم على رابطة الدم والارتباط بالأرض على النمط الأوروبي، ولكنها مموهة بألوان العلم الأميركي. المَخرج من هذا السجال ليس أن نميل إلى الوطنية أو إلى العولمية، وإنما يتمثل المَخرج في العودة إلى الوطنية الأميركية، التي تبناها أُناس مثل والت ويتمان، وهي وطنية تدمج تعريفاً «شاملاً وإدماجيا» للمقصود بأهلنا، مع التزام تام باستيعابهم، والاهتمام بهم في الآن ذاته.