نعاني من فشل القيادة في أميركا.. فالنظام السياسي لا يعمل كما ينبغي، والمشكلات الكبرى لا يتم التعامل معها بشكل صحيح. لكن ما طبيعة هذا الفشل؟ ثمة نظرية تقول «إن هذا الفشل سببه الفساد، إذ تتدفق أموال طائلة عبر واشنطن بدرجة تجعل أصحاب المصالح يحصلون على كل ما يريدون، أما الآخرون فلا يحصلون على شيء». النظرية الأخرى مرتبطة بالتعصب والتقوقع، حيث تقضي النخب معظم أوقاتها في أروقة منعزلة تماماً ولا يعرفون شيئاً عما يدور حولها. ولكلتا النظريتين وجه صائب، بيد أنه خلال العقود القليلة الماضية، انخرط آلاف الناس ممن يتمتعون بالنزاهة في الخدمة العامة، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين في نظام يستنزف إحساسهم بالرسالة التي يقدمونها من خلال وظيفتهم. دعونا نبدأ بتذكير حول الاختلاف بين «الرسالة» و«العمل»، فالعمل شيء تختاره وتسعى له، أما «الرسالة» فوظيفة تُطلب من أجلها وتُدعى لها. والشخص الذي يختار عمله يسأل: كيف يمكن أن أحصل على أفضل وظيفة، وكيف أفوز في الانتخابات؟ أما الذي يُستدعى لأداء رسالة فيسأل: كيف يمكن الاستفادة من إمكاناتي لخدمة ما هو أفضل للصالح العام؟ والعمل وظيفة تقوم بها طالما تجاوزت الامتيازات التكاليف، أما الرسالة فتنطوي على شغف بشيء ما، لديك إيمان به، تجعله جزءاً من هويتك الشخصية. وتتضمن الرسالة وعوداً مثالية، وتكشف بحد ذاتها عن شعور بالمتعة، بينما يضطلع الشخص بأداء المهام المنطوية عليها، ولا يمكن التخلي عنها بسهولة، عندما تحدث عقبات أو حالات تحقير. ما أسهل أن يكيل المرء الانتقادات، لكن كثيراً من الناس يدخلون إلى الحياة العامة وهم يشعرون بذلك النداء المثالي لأداء الرسالة. وعندما يقضي المرء بعض الوقت حول مسؤولين حكوميين يصيبه ذهول شديد من حقيقة كونهم مثيرين للإعجاب بعيداً عن الأنظار مقارنة بحالهم في العلن. والحقيقة أن الحياة السياسية ليست بتلك الجاذبية أو النفوذ أو المتعة. فمعظم السياسيين لا يتحملون الخوض في أنشطة جمع التمويلات والألاعيب الحزبية السخيفة، ما لم تدفعهم لذلك بعض الأسباب الملائمة. لكن على مر السنين، ابتلع النظام كثيرين في طيات حسابات المستشارين والدوران في حلقات وسائل الإعلام المفرغة والاجتماعات المتواصلة مع أصحاب الطلبات، والضجيج المستمر من انتقادات الجماهير، والطريقة التي تبتلع بها الحملات الانتخابية الوقت بدرجة تجعل السياسيين يقضون وقتاً أقل في التفكير بشأن السياسة، وطغيان خدمة المصالح الحزبية على القضية التي دفعتهم إلى هذا المكان في المقام الأول. ومثلاً يبدو أن هيلاري كلينتون كان حافزها الأول هو الرغبة في خدمة الأطفال، لكن مع الوقت، تشكلت أسوار الشجار القاسية. و«ميت رومني» إنسان خير بدرجة استثنائية، لكنه عندما خاض حملة انتخابية بدا أن طبيعته الحقيقية اختفت خلف غلاف من المعادلات السياسية. ومثلما أشار الشاعر «ديفيد وايت» من قبل: «العمل مثل الزواج.. مكان يمكن أن تخسر فيه نفسك ربما بسهولة أكبر من أن تستكشف فيه ذاتك.. حيث نخسر آراءنا ومساهماتنا وحتى لغة حوارنا». لكن في كثير من الأحيان تحل ذهنية التعامل مع العمل كحرفة محل ذهنية التعامل مع العمل كرسالة، وعندما يحدث ذلك، يصبح السياسيون جبناء، ويدفعهم الخوف من الفشل بدلاً من أي مُثُل إيجابية. ويصير هؤلاء السياسيون محاصرين بالحسابات قصيرة الأمد، وينسون في الغالب رؤيتهم الحماسية ومُثُلهم طويلة الأمد. ويبررون ذلك لأنفسهم، فلأن المعارضة تكون من وجهة نظرهم شرّاً مطلقاً، يصبح أي شيء في خدمة «حرفتهم» بمثابة خدمة لدولتهم. وهذا الأمر ليس سيئاً للمتورطين فيه فحسب، ولكن للنظام بأسره. والأشخاص الذين يتعاملون مع وظيفتهم كرسالة تكون أعينهم على الأهداف بعيدة الأمد، وتكون لديهم رغبة في الإلقاء بأنفسهم تجاه أهدافهم بإبداع وجرأة وبلا توانٍ. وبالمقابل، يضع الأشخاص الذين يعملون بذهنية «الحرفة»، الحفاظ على ذاتهم قبل كل شيء، ولا يتم إنجاز أي شيء لأن الجميع يلوذ بالتصرفات الآمنة القديمة ذاتها. وأعتقد أنه كثيراً ما تكون هناك صلة بالرسالة، حيث يبدأ الناس بشيء من خارج أنفسهم، وعند اندفاعهم لترسيخ أقدامهم، يستحوذ طموح الذات، ثم في مرحلة ما يدرك الناس خطأ ذلك كله، ويحاولون الاتصال من جديد بمبادئهم الأصلية. لذا، أتصور أنه من الممكن أن نتخيل تجدد رسالة العمل، وإذا تم انتخاب هيلاري، فربما يمكنها أن تذكرنا بأننا جميعاً طورنا تلك العادات السيئة التي جعلتنا جميعاً نكره سرّاً تلك اللعبة التي أقحمنا أنفسنا فيها والطريقة التي نلعب بها. وسيكون عملاً شجاعاً منها، لو أمكنها أن تقود الناس إلى التجرد من كل آليات الدفاع عن «الحرفة»، وتذكرهم بنُذُرهم ومبادئهم الأصلية يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»