إنني أحترمُ كثيراً ذكاء الناخب. والواقع أنه كثيراً ما يُنقل عن وينستون تشرشل قوله إن أفضل وأقوى حجة ضد الديمقراطية هي حديثٌ لمدة خمس دقائق مع ناخب عادي، ولكن الأهم من ذلك في نظري هو ما قاله في مجلس العموم في 31 أكتوبر 1944: «إن وراء كل الأشياء الإيجابية التي تقال في حق الديمقراطية هناك ذلك الرجل الصغير الذي يدخل العازل الانتخابي الصغير وراء الستارة السوداء حاملًا قلمه الصغير ليختار مرشحه، ويكتب علامة على ورقة صغيرة -لا شيء أبداً يمكن أن يقلّل من أهمية هذه العملية». غير أنه بإلقاء نظرة على ال16 عاما الأولى من هذا القرن، لا أحد يستطيع أن يقول إن النخب السياسية والمالية التي جلبت لنا أزمة اليورو، والحرب في العراق، والركود الاقتصادي في 2008، وتفاقم التفاوت الاجتماعي، وركود دخل الطبقة المتوسطة، لم ترتكب بعض الأخطاء الفادحة جداً، ذات التداعيات الطويلة، وقد أفلتت أيضاً من المحاسبة على نحو مذهل جداً. ولا غرو أنه بات يُنظر إلى الخبراء على نحو متزايد باعتبارهم يمارسون الخداع والتدليس خدمةً لمآربهم الخاصة، حيث بات الناس العاديون يعتقدون أن النظام مزور، وأن النخب لا توجد فيه من أجل الشعب وإنما من أجل المال. إنه «عصر انعدام الثقة»! والحق أنه لم يسبق لمرشحين رئاسيين أن كانا محل ارتياب وانعدام ثقة مثل دونالد ترامب وهيلاري كلينتون الآن. والأخطاء التي أشرتُ إليها وقعت وسط عاصفة تكنولوجية نقلت المصانع إلى الخارج والمهاجرين إلى الداخل، وأتاحت فرصاً كبيرة جداً لأولئك الذين عرفوا كيف يستغلون رياح العولمة بينما سلبت الكثيرَ من الأماكن النائية والأشخاص والشرائح المنسية. ولا شك أن التكنولوجيا شيء رائع إذا أحسنت استغلالها، ولكنها لا تكون كذلك إذا كانت تنهي جدواك وفائدتك. كما أن الكثير من الناس في الديمقراطيات الليبرالية يشعرون بأنهم يُتقاذفون من قبل قوى لا يتحكمون فيها -وخاصة في اليونان، التي كشفت فيها الانتخابات الوطنية خلال السنوات الأخيرة عن انفصال تام بين الصوت نفسه وأي تأثير ملموس. فما هي الديمقراطية؟ هل هي مجرد لعبة؟ مشاعر القلق فاقمها وكرّسها الشعورُ بانعدام الأمن جراء الإرهاب وأنواع أخرى من العنف. ولئن كانت التفجيران في ولايتي نيويورك ونيوجيرزي والهجوم بسلاح أبيض في مركز تسوق بولاية مينيسوتا مازالت موضوع تحقيق، فإن الخوف كثيراً ما يولّد التعصب وانعدام التسامح، والبحث عن زعيم لا يرحم. وكل هذا يمثل خلفية لترامب، ومارين لوبن في فرنسا، ولخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والحكومات القومية اليمينية التي باتت تهيمن على أوروبا الوسطى، ولصعود حزب البديل اليميني في ألمانيا، وموجة النماذج الاستبدادية، وباختصار، للتحديات التي تواجه الديمقراطيات الليبرالية. لقد قال ماركس إن التاريخ يعيد نفسه، أولاً كمأساة ثم كتمثيلية هزلية. ولكن قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي مثّل الاستثناء -لأنه شكّل مأساة وملهاة في آن واحد، كارثة ساعدت عليها الأكاذيب، ونشّطها مهرجٌ، ووقعت في جو من الفوضى والجلبة. وكانت تلك اللحظة التي أصبح فيها من المؤكد أن بعض أُسس عالم ما بعد الحرب وانتشار الديمقراطية الليبرالية -التجارة الحرة، الأسواق الحرة، وحدود مفتوحة أكثر، ونقاشات مبنية على الحقائق، ومزيد من الاندماج- قد انهارت تماماً. بيد أنني إذا كنتُ متشائماً على المدى القصير، فإنني متفائل على المدى الطويل. فالمشاكل لا يمكن علاجها على المدى القصير، وسيتعين على السياسيين أن يعملوا بجد حتى يستعيدوا ثقة الشعب. كما أن ثمة مشكلة حقيقية في ما سماه ستيفان والت من جامعة هارفرد «النخب الحاكمة في الكثير من المجتمعات الليبرالية، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث خلق المالُ والمصالحُ الخاصة طبقةً سياسيةً فاسدةً بعيدة عن الناس العاديين وهمومهم، تفلت من المحاسبة، ولا يهمها سوى إغناء نفسها». وهذا ينبغي أن ينتهي. إن على الديمقراطية أن تفي بوعدها، ليس للأغنياء فقط ولكن أيضاً للمستضعفين في الأرض. فعندما تخلق الديمقراطيةُ الثروةَ على نطاق واسع، لا يكون ثمة توتر بينها وبين الرأسمالية. ولكن عندما لا يحدث ذلك، تصبح قيمةُ الديمقراطية أقل وضوحاً بالنسبة للبعض. ولذلك، هناك توتر بين السيادة الوطنية، والأسواق العالمية المفتوحة، والهجرة الجماعية. ولكن الجواب هنا ليس هو بناء الجدران، بل على المجتمعات الغربية أن تبني التعليم والابتكار والفرص. وشخصياً، أؤمن بقوة الديمقراطية الليبرالية، وأؤمن بالمرأة الصغيرة التي تدخل العازل الانتخابي الصغير لتختار المرشح الذي ستمنحه صوتها. إن الليبرالية تتطلب قبول خلافاتنا البشرية والقدرة على حلها من خلال المؤسسات الديمقراطية. فالديكتاتوريات تخشى التحدي الكبير لأنه قد يجعلها تنهار، ولكن التحدي في الديمقراطية يمثل أيضاً ولادةً من جديد. وعليه، احترموا ذكاء الناخبين. فعاجلًا أم آجلًا، سيعودون إلى رشدهم. وتذكّروا أن تشرشل طُرد من رئاسة الوزراء في انتخابات 1945، بعد أشهر قليلة على هزيمة هتلر، ولكنه انتُخب من جديد في 1951. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»