يعتبر الأكاديمي والاقتصادي الفرنسي جاك سابير أحد أبرز الاقتصاديين في بلاده، وفي أوروبا بصفة عامة، المتخصصين في دراسة اقتصاد الاتحاد السوفييتي السابق، الذي أنجز عنه رسائل أكاديمية ودراسات بات بعضها الآن في عداد الدراسات الكلاسيكية حول النمط الاقتصادي الشيوعي، وآفاته وعلله وأوجه خلله، التي أدت مع مرور الزمن إلى انهيار الإمبراطورية السوفييتية السابقة ومعسكر وارسو الذي كانت تقوده، وقد تلاشى كل ذلك وتداعى حتى من دون إطلاق رصاصة واحدة. ولعل هذه الحيثية العلمية التي عرف بها هذا الاقتصادي تبدو الآن مفيدة لفهم مدى الاهتمام الذي لقيه الكتاب الذي أصدره في شهر أكتوبر الجاري تحت عنوان: «اليورو ضد فرنسا، اليورو ضد أوروبا»، حيث إنه يستدعي في أذهان قرائه بعض تلك التوصيفات المتعلقة بالنظام الاقتصادي الشمولي، موحياً بطرق مختلفة بأن هذا هو النمط الساري الآن فعلاً في أوروبا، وبالتحديد في منطقة اليورو، حيث يعمل بعض عتاة البيروقراطيين القابعين في مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل كأباطرة، ويتدخلون في كل شاردة وواردة من السياسة النقدية، والاقتصادية بصفة عامة، في الدول الأعضاء في منظومة العملة الموحدة. وهذا من وجهة نظر المؤلف لا يشكل فقط خطراً على سيادة الدول الوطنية في القارة العجوز، وإنما يحمل أيضاً في طياته بذور ظهور نظام شمولي مهدد للديمقراطية، ولروح الليبرالية والحرية الاقتصادية، ومن وراء هذه وتلك حرية المبادرة والحرية الفردية التي تكفلها النظم السارية في كافة الدول الديمقراطية. وفي وقت ما زالت أوروبا تكابد فيه مرارة الخروج البريطاني من الاتحاد الذي يعد أقوى صفعة توجه حتى الآن لأحلام مشروع الاتحاد القاري التاريخي يأتي كتاب «سابير» هذا ليصب مزيداً من الزيت على النار لدى المتشككين في المشروع الأوروبي برمته، من حيث هو، وخاصة أنه يهاجم الجانب الاندماجي الاقتصادي والمالي في الاتحاد من وجهة نظر سياسية متصلة بتداعيات ذلك على الحرية والديمقراطية، هذا فضلاً عن كون دغدغته للمشاعر السيادية والوطنية القومية تلقى هي الأخرى الآن آذاناً صاغية كثيرة على امتداد القارة مع صعود شعبية التيارات اليمينية القومية المتطرفة في العدد الأكبر من الدول الأوروبية. وهي تيارات لم تضمر يوماً أية مشاعر ودية تجاه المشروع الاتحادي القاري، وتعرف عنها نزعاتها الانعزالية، وأحياناً حتى الانفصالية داخل الدولة الوطنية الواحدة نفسها. وزاد الأمور سوءاً اختلاط التداعيات المزمنة للأزمة المالية الأوروبية مع تدفق سيل المهاجرين خلال العام الماضي، وتفاقم تحديات العنف والتطرف والإرهاب المرتبطة في أذهان كثير من الأوروبيين، وفق ترسانة راسخة من الأحكام المسبقة والصور النمطية، بكل ما له علاقة بالهجرة والمهاجرين. وفي سياق التشكيك في مدى ملاءمة اليورو والسياسة النقدية -الفوقية- الموحدة مع مفهوم الديمقراطية يقول الكاتب، ابتداءً، إن من البديهي أنه لا ديمقراطية مع اليورو، ولذا فإن «الاتحاد الأوروبي يواجه مشكلة مستعصية، وأساس هذه المشكلة هو العملة الموحدة، اليورو.. فهو في حد ذاته يسيء للديمقراطية، ويؤدي، شيئاً فشيئاً إلى التمكين لنظم سلطوية ديكتاتورية، بل يخلقها من العدم، كرد فعل على الحركات المناهضة للمشروع الأوروبي نفسه». ولكن كيف ذلك؟ يجيب سابير بكل مباشرة ووضوح على هذا السؤال قائلاً: «إن مركزة السلطة النقدية والمالية الهائلة بين أيدي بعض الأفراد البيروقراطيين، من شأنها أن تشجع على أعمال الاحتيال والغش، وتحريف المسار الديمقراطي» (ص 28) عن وجهته السليمة. بل إن كل القيم الديمقراطية والروح الجمهورية هي من حيث الأساس مضادة لهذه المركزة لسلطة اتخاذ القرار المالي بشكل فوقي متجاوز لخيارات الدول الوطنية ذات الحقوق السيادية، والحكومات ذات الالتزام الديمقراطي تجاه مواطنيها وناخبيها وشعوبها. وفي المقابل تكون السياسات المالية الفوقية العابرة للإرادات الوطنية والمتعدية لها عاملاً محفزاً لاتساع الفروق في الدخل على مستوى الدول، وبين الطبقات والشرائح داخل الدولة الواحدة أيضاً، وهو ما يفاقم التوترات الاجتماعية والأزمات السياسية في العديد من بلدان القارة. ومن المعلوم ضرورة أن الديمقراطية والقيم الجمهورية تعنيان بكل تأكيد أن يكون الحكم والقرار بيد الشعب، ومن أجل مصلحة الشعب، ولكن وثوقيات وأوهام اليورو تسير في الاتحاه المعاكس لكل هذا. والأخطر من ذلك أن الكثير من الساسة يفاقمون من عجزهم وعدم قدرتهم على الاستجابة لتطلعات شعوبهم وذلك من خلال التهرب من تحمل المسؤولية عن اتخاذ القرار النقدي والمالي الخاص بدولهم، والمتماشي مع مصالحها الوطنية الخاصة، بدعوى كون ذلك من اختصاصات الأجهزة القارية الموحدة، مدعين أن التزامهم بالقرار الفوقي الآتي من بيروقراطية بروكسل هو في النهاية الخيار الوحيد، بالنظر إلى إلزامية ذلك في بعض النصوص المؤسِّسة للمشروع النقدي الأوروبي المشترك. وبهذا المعنى فإن المسؤولين السياسيين الذين تنتخبهم الشعوب الأوروبية لا يؤدون عملهم، ويتحولون إلى ما يشبه الآلات الكسولة، التي تنتظر أن يؤدي غيرها عنها العمل. ومن هنا فإن تعدي مركزية الأجهزة الأوروبية علي إرادة الخيارات والقرارات الشعبية هو أوضح ما يمكن اعتباره تعارضاً مع قيم ومبادئ الديمقراطية. وهذه مفارقة أخرى، بل مفارقة المفارقات، في رأي الكاتب. وفيما يخص فرنسا تحديداً يرى الكاتب أن اليورو إنما يقودها نحو كارثة محققة. تماماً كما هي حاله مع بقية دول أوروبا الأخرى. وفي غمرات حجاج الكاتب هنا للبرهنة على صحة دعاواه ومزاعمه عن الأضرار البالغة التي تلحقها العضوية في العملة الأوروبية الموحدة باقتصاد فرنسا، وسياساتها النقدية، يركز بشكل خاص على تفكيك وتفنيد ما يسميه وهم «العملة الموحدة الحامية»، أي التي توفر غطاء اقتصادياً ضامناً لمصلحة الجميع، وحائلاً من دون انهيار الدول الوطنية كلاً على حدة. وعلى العكس من تلك الدعاوى الرائجة في الإعلام عن إيجابيات اليورو يرى سابير أن حس الشعوب يدرك بشكل واضح مدى الضرر البالغ الذي تلحقه العملة الموحدة بمصالحها، بل إن المواقف السلبية من اليورو تحولت مع مرور الوقت إلى مواقف أكثر سلبية بكثير من الاتحاد الأوروبي ككل، وفي هذا المقام يقول الكاتب «في الحقيقة يمثل وجود اليورو اليوم أحد العوامل التي تجعل الاتحاد الأوروبي مشروعاً قليل الشعبية على نطاق واسع وفي معظم الدول الأعضاء» (ص 58). وذلك وفق دينامية تؤدي المقدمات فيها منطقياً إلى نتائج تكاد تكون معروفة سلفاً، حيث إن الأضرار التي تتسبب فيها السياسة النقدية الموحدة، التي لا تراعي التفاوت في الدخل وفي سرعة النمو بين الدول الأعضاء، تؤدي بالضرورة إلى أزمات مالية، تترجم نفسها تالياً إلى أزمات اقتصادية، وهذه تفضي إلى أزمات اجتماعية، تتوج أخيراً بأزمات سياسية. وبعبارة أخرى، تتلاشى فرص الرفاه والازدهار وتتكشف حلقة الأزمات المفرغة هذه عن حالات عدم استقرار. ولعل السؤال الذي ينتظره قارئ كتاب سابير بعد كل هذا التشكيك في قيمة وجدوى العملة الأوروبية الموحدة، هو: ما العمل؟ أين الحل من وجهة نظره؟ والحل في رأيه، باختصار شديد، هو الخروج من منطقة اليورو، واتجاه فرنسا، وكل دولة أوروبية أخرى على حدة، للبحث عن حلول وطنية لمشكلاتها المالية، وسياساتها النقدية، على نحو يراعي خصوصياتها الاقتصادية من جهة، ويستجيب لقيم الديمقراطية والتطلعات الشعبية من جهة أخرى. وهذا يعيد من جديد استدعاء الظرف الزمني الذي ظهر فيه كتاب سابير، الآن والشعوب الأوروبية تواجه صدمة ما بعد «البريكسيت»، وخروج بريطانيا القاسي من المشروع الاتحاد الأوروبي. وبهذا فكأن الكاتب يرى أن «البريكسيت» الجماعي هو الحل، أي أن يتفكك الاتحاد الأوروبي على الأقل في الجوانب الأهم من وحدته المالية والنقدية، لتعود السياسات النقدية الوطنية، ولتبقى أوروبا كمشروع سياسي، أو حتى اقتصادي فضفاض، ومن دون وحدة نقدية أو سياسات مالية مشتركة ومنسقة بشكل دقيق وشامل. وهو ما يعني، استطراداً، التراجع عن أحد أبرز مكاسب المشروع الأوروبي التي تحققت حتى الآن، إذ إن الوحدة النقدية وحرية تنقل الأفراد في الفضاء الأوروبي هما أبرز مكسبين تحققا حتى اليوم. ولئن كانت الحدود بين دول الاتحاد عادت من جديد إلى ما يشبه المراقبة ورجعت إليها القيود على خلفية أزمة تدفق المهاجرين، فإن التراجع عن العملة الموحدة سيعني أيضاً دق آخر مسمار في نعش الاتحاد الذي حلمت به أجيال كاملة من الوحدويين «الرومانسيين» الأوروبيين على امتداد القارة، وعمل من أجل تحقيقه على أرض الواقع زعماء كبار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى هذه اللحظة. حسن ولد المختار الكتاب: اليورو ضد فرنسا، اليورو ضد أوروبا المؤلف: جاك سابير الناشر: سيرف تاريخ النشر: 2016