خلال العقود القليلة الماضية، كان الولاء الحزبي هو السمة الأبرز في السياسة الوطنية. ففي مجلس النواب، وحتى في مجلس الشيوخ، كان الأعضاء يتأخرون في الفعل عن الزعماء الحزبيين، ويأتون بعدهم في الأهمية. كما كان أعضاء حزب الرئيس يتصرفون كجنود مشاة تابعين له. أما أعضاء الحزب غير الحاكم، فيتصرفون كمعارضة. لكن فوز دونالد ترامب حطم كل هذا. فهو معادٍ للمؤسسة الجمهورية، ومقترحاته تتعارض مع الخطوط الحزبية الأرثوذكسية. وكما قال لي «بيل كريستول»، فإن الكونجرس القادم قد لا يبدو مشابهاً للكونجرس الذي كان قائماً خلال الإدارات السابقة، حيث كان التصويت يتم بناءً على الخط الحزبي. فالكونجرس الجديد سيضم العديد من المجمعات الحزبية، وسيتكون من ائتلافات عابرة بدلاً من كونجرس يعمل على أساس قاعدة طاعة أوامر الزعيم. وفي الآن ذاته، وكما كتب «كريستوفر دي موث» مؤخراً في صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن رئيس كل لجنة من لجان هذا الكونجرس، قد يلجأ إلى إعادة تأكيد سلطته في مواجهة الفرع التنفيذي. وهنا نجد أن أسلوب ترامب السلطوي، يمثل تعدياً على قاعدة الفصل التقليدي بين السلطات. وقد تنتهي به الحال إلى تنشيط الإصلاحات والممارسات الدستورية التي يقف ضدها. والوضع المنتظر في واشنطن قد يشبه لحد ما الوضع بعد انتهاء الحرب الباردة: أي أن تخلي الثنائية القطبية مكانها لتعددية قطبية، ويخلي النظام الذي تهيمن عليه قوى قائمة على أساس خطوط حزبية مكانه لنظام آخر تتعدد فيه مراكز القوى، وبدلاً من جمهوريين وديمقراطيين قد تكون هناك قومية شعبوية يهيمن عليها ترامب، ومجمع حريات أكثر تحررية، ومجمع تقدمي مكون من بيرني ساندرز واليزابيث وارين، وحرس قديم مكون من تشك شومر، ونانسي بيلوسي. وأهم تلك المجمعات قاطبة سوف يكون في الوسط الأيديولوجي. فهناك مساحة كبيرة بين اليمين البديل، واليسار البديل، أي بين السلطوية الترامبية والاشتراكية الساندرزية. حتى الآن، مازال الموجودون في هذه المساحة يتحركون ببطء لإقامة شبكات مانحة، ولتكوين مراكز فكرية، وبناء تحالفات من المشرعين المعتدلين. لكننا، في الآن ذاته، شهدنا فورة نشاط بين المتطرفين من الجانبين: فمثلاً نجد أن كلاً من «بيل كريستول» و«بيل جالستون» قد عملا في بيت أبيض شغله رؤساء من الحزبين، وصوتا لمرشحين رئاسيين مختلفين في الانتخابات كافة التي جرت خلال العقود الأربعة الماضية، قبل أن يأتي ترامب ليذكرهما بأنهما يتفقان لحد كبير بشأن الأساسيات. وقد أصدر الرجلان مؤخراً بياناً مشتركاً يدعوان فيه إلى «وسط جديد» وصفاه بأنه يمثل دفاعاً عن المؤسسات والممارسات الأساسية لنظامنا الدستوري، فيما يعد محاولة لصياغة فلسفة حاكمة جديدة يلتف حولها أشخاص من أحزاب مختلفة. وأكثر المنظمات الوسطية نشاطاً هي منظمة «نو ليبلز» التي بدأت منذ 6 سنوات في معارضة السياسات الاستقطابية، والمنافسة الحامية الوطيس غير الملتزمة بقواعد التنافس الشريعة. وفيما بعد تطورت المنظمة تحت قيادة مؤسستها التي لا ترتدع، «نانسي جاكوبسن»، وكونت حزمة من الأفكار الإصلاحية، لجعل الكونجرس، والفرع التنفيذي من الحكومة، يعملان معاً، كما كونت مجمعاً تشريعياً سمته «مجمع حلالي المشكلات»، يضم 80 عضواً، مقسمين بالتساوي بين الحزبين الرئيسين. ومؤخراً نشر المجمع، كتاب قواعد للعبة السياسية يضم 60 مقترحاً لخلق الوظائف وإصلاح القانون الضريبي، وموازنة بين الموازنة وبرامج الاستحقاقات الآمنة. وإذا ما مضينا قدماً، فسنجد أن المعتدلين يواجهون أربع مشكلات: الأولى: تعميق الرؤية الوطنية الإيجابية التي لا تكتفي فحسب بموضعة نفسها بين اليمين واليسار. الثانية: تصعيد جيل جديد من القادة السياسيين بحيث لا تتحول الحركة، إلى تكرار لأنواع المؤسسات التي تعتمد في عملها على المتقاعدين. الثالثة: بناء حركة جماهيرية من الناخبين الحقيقيين وليس فقط من الممولين وخبراء المؤسسات الفكرية. الرابعة: امتلاك الشجاعة التي تمكنهم من الوقوف معاً كمجمع تشريعي متأرجح عندما يكون الضغط من جانب القيادات الحزبية شديداً. إنها مهمة شاقة ولكن اللحظة الحالية مناسبة للقيام بها. فعصر ترامب -ساندرز سيخلق كتلاً معارضة جديدة، تزخر بالأشخاص الذين لم يخطر ببالهم قط أنهم سيعملون معاً. إن «الوسط الجديد» سيبدأ على الأرجح كمجمع تشريعي يتكون من أعضاء من الحزبين. أما إلى أين يذهب من هناك.. فلا أحد يعلم على وجه الدقة. ديفيد بروكس كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»