كشفت الأحداث العنصرية المتوالية التي تتفجر من وقت لآخر في العديد من المدن الأميركية أن جمر هذه القضية لا يزال ملتهباً تحت رماد قانون إلغاء العنصرية الذي صدر في عهد الرئيس الأسبق ليندون جونسون. فالأميركي الأسود -المتحدر من أصول أفريقية- يعتقد أنه مستهدف لذاته بسبب لون بشرته. والشرطي الأبيض -المتحدر من أصول أوروبية- يعتقد أن كل أميركي أسود هو قنبلة موقوتة. وهذه الصور المتبادلة ليست جديدة. فهي مستمرة منذ أيام الاستعباد وتجارة الرقيق! في عام 1807 أصدرت الحكومة البريطانية قراراً بمنع وتجريم هذه التجارة. يومها كاد القرار يزج ببريطانيا في الحرب الأهلية التي عصفت بالولايات المتحدة. فالولايات الجنوبية كانت تعتمد على اليد العاملة من الأفارقة المستعبدين في زراعة القطن. وكانت بريطانيا تعتمد على إنتاج القطن من هذه الولايات الأميركية (التي كانت تستعمرها) لتزويد مصانع النسيج في يوركشاير بما تحتاج إليه. وكانت هناك مصلحة مشتركة بين لندن والولايات الجنوبية، إلى أن قرر رئيس الحكومة البريطانية اللورد بالمرستون تحريم تجارة العبيد انطلاقاً من قناعاته الدينية المسيحية. وترجمةً لقرار الإلغاء، أمر بالمرستون بإرسال قطع من الأسطول الحربي البريطاني إلى السواحل الغربية لأفريقيا لفرض حصار عليها يحول دون استمرار مصادرة الأفارقة من قراهم وحملهم كالحيوانات عبر الأطلسي إلى الولايات الأميركية الجنوبية. وفي عام 1833 توقفت تجارة العبيد في كل أرجاء الإمبراطورية البريطانية.. باستثناء الولايات الجنوبية الأميركية تحديداً.. حيث تتوالى اليوم الأحداث العنصرية بين رجال الشرطة البيض.. والمواطنين السود. وقد وجدت بريطانيا سوقين للتعويض على خسائرها في ذلك الوقت من جراء التحول الذي قررته. فبدلاً من القطن الذي أوقفت الولايات الأميركية الجنوبية تصديره إليها، احتلت بريطانيا مصر والسودان، لتجعل منهما مزرعة لإنتاج القطن البديل عن القطن الأميركي. ومنذ ذلك الوقت بدأت زراعة القطن في مصر.. وازدهرت. وكذلك وجدت بريطانيا في الولايات الأميركية ذاتها سوقاً لبيع السفن التي كانت تستخدم في تجارة العبيد، والتي كانت مدينة ليفربول تعيش على صناعتها. إذ جرى تحويل تلك السفن إلى سفن حربية. وكانت النواة الأولى للأسطول الحربي الأميركي! وقد عاصر تلك المرحلة من المتغيرات كارل ماركس (وكان يعيش في لندن قبل أن يطلق نظريته حول الشيوعية)، وكان يومها مراسلاً لصحيفة «هيرالد» في نيويورك. وقد أدان في مقالاته ما سماه نفاق الحكومة البريطانية. ووجد أن النفاق كان يتمثل في منع تجارة العبيد من جهة، وفي تمويل ومساعدة تجار العبيد في الولايات الأميركية من جهة ثانية. وفي كتاب صدر مؤخراً في لندن حول هذا الموضوع للمؤرخ البريطاني كريستوفر ويكي عنوانه: «رَجلنا في تشارلستون: رجل المخابرات السرية البريطانية في الحرب الأهلية الأميركية الجنوبية»، يقول المؤرخ إن ماركس كتب في عام 1861 يقول: «إن بريطانيا مستمرة في مغازلة الإدارة الاستعبادية في الجنوب الأميركي». منتقداً في الوقت ذاته الصحف البريطانية التي كانت تشجع على ذلك بما فيها «التايمز» و«الإيكونوميست». ويروي الكتاب قصة روبرت بانش، القنصل البريطاني، في مدينة تشارلستون (التي شهدت في الفترة القريبة الماضية بعض حوادث الاصطدام المسلح والقاتل بين أفراد شرطة بيض والسود). وتقول القصة إن القنصل الذي عمل بين عامي 1853 و1863، كان وراء عدم زج بريطانيا في الحرب الأهلية الأميركية من خلال التقارير التي كان يبعث بها. فقد حذر في تلك التقارير من أن يذهب بالمرستون في معارضته لتجارة العبيد إلى حد الاعتراف بالاتحاد الثائر. وكانت وجهة نظره أنه إذا استتب الأمر للاتحاد، فإنه سيعيد تنظيم تجارة العبيد، لأن الاقتصاد كله يقوم على سواعد هؤلاء. ومن أجل ذلك يقول المؤلف، إن القنصل بانش «كان يطلع الرئيس بالمرستون على ما كان لا يريد أن يطلع عليه» بشأن المعاملة غير الإنسانية التي كان يتلقاها السود على أيدي مالكيهم من البيض. وهكذا بقيت بريطانيا خارج الحرب الأهلية في الجنوب الأميركي. وفي الأساس فإن بريطانيا التي أدخلت نظام تجارة العبيد هي أيضاً التي بادرت إلى الغائه، وكأنها، كما يقول المؤرخ البريطاني أريك وليامس: «استحدثت تجارة العبيد فقط من أجل أن تتباهى بإلغائها». ولكن هل ألغيت هذه التجارة فعلاً.. أم أنها لا تزال مستمرة.. ولو بأشكال جديدة؟!