عبر تاريخ الإنسان الممتد بُنيت حضارات واندثرت حضارات، وسيطرت حضارات على العالم ثم زالت وبقيت آثارها تحكي أمجاد ولت، وتلك الحتمية التاريخية التي جعلت علماء الاجتماع يعتبرون أن الحضارات كالإنسان تولد وتشب وتنمو وتصل لذروة القوة ثم تدخل في مرحلة الانهيار، وتخبو جذوة شمسها. الحضارة كما يُعرفها الدكتور حسين مؤنس في كتابه (الحضارة) (هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان الجهد المبذول للوصول لتلك الثمرة مقصوداً أم غير مقصود، سواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية). كما يراها «ويل ديورانت» في كتابه (قصة الحضارة) (أنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي. وتتألف الحضارة من عناصر أربعة رئيسة (الموارد الاقتصادية، النظم السياسية، التقاليد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون)، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه ما إن آمن الإنسان من الخوف إلا وتحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه لفهم الحياة وازدهارها). لهذا يبقى الإنسان ركيزة بناء الحضارات الأساسية، فمن دون قدرته على الإنشاء والبناء والإبداع والابتكار في مجالات الحياة كافة، ما كان له أن يبني حضارة ما. كانت دولة الإمارات العربية المتحدة معبراً تمضي من خلاله مختلف الحضارات ما بين الغرب والشرق والشمال والجنوب، فطبعت على مدار تاريخها الطويل الكثير من آثار الحضارات الأخرى، وذابت في حضارتها التي ظلت محدودة بحدود جغرافيتها الصحراوية والمقسمة في مجموعة الإمارات المنفردة قبل أن يتم الاتحاد، ويعلن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، لتبدأ خطوتها الأولى نحو تكوين حضارة إنسانية متفردة لها من الخصوصية ما يجعلها متميزة. وكانت السنوات الأخيرة من القرن الماضي، تحمل إرهاصات بناء الحضارة التي تشرق على صحراء الإمارات لتنثر بريق الثقافة والمعرفة على أرضها الطيبة. ونحن اليوم نحقق ذلك الأمان الذي تحدث عنه «ويل ديورانت» كأساس لبناء الحضارة، ذلك الأمان الذي يدفع الإنسان إلى التنقيب في قدراته وطاقاته الابتكارية والإبداعية ليعيد صياغة معطيات الحاضر، ويصنع مستقبلاً أفضل. وحين ننظر نظرة شاملة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة نجدها وقد حققت كل تلك العوامل التي تساهم في صناعة الحضارة. نجد مواردنا الاقتصادية تتنوع فلم يعد النفط هو مصدر قوة الاقتصاد الإماراتي فقط، بل من خلال يقين القيادات الحكيمة منذ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه بأن البترول ثروة لكن سيأتي يوم وينتهي، بدأت خطوات جادة في سبيل تنوع المصادر الاقتصادية وضعت رؤية لمرحلة ما بعد النفط والإعداد للاحتفال بآخر برميل نفط. من خلال هذا التنوع الاقتصادي تضمن الاستقرار والاستدامة الاقتصادية. أما العامل الثاني هو الاستقرار السياسي الذي تعيشه دولة الإمارات من خلال الثقة المتبادلة ما بين القادة وبين المجتمع، تلك الثقة التي تولد قيماً إنسانية نبيلة، تستقر في يقين القيادات أن ضمان السعادة والأمن والأمان للمجتمع هو الهدف الأسمى، وأن المواطن وكل من يحيا على أرض هذا الوطن له الحق في الحياة الكريمة الآمنة، ويقوي هذا الاستقرار قوة مؤسسات الدولة، وحرصها المستمد من حرص القادة على تحقيق تطلعات المواطن الإماراتي. ومن هنا نعرج على العامل الثالث وهو القيم الأخلاقية تلك القيم التي توارثناها من خلال موروث مجتمعي أخلاقي قوي نبعه هو الدين الإسلامي الحنيف في وسطية منهجية، وقوة تلك القيم نابعة من إيمان الأفراد بأن التطور والتحضر لا يمنع من المحافظة على المنظومة القيمية والأخلاقية الموروثة. وهنا أشير إلى الحرص على إطلاق مبادرة تضمين المناهج الدراسية مادة التربية الأخلاقية، والتي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة حفظه الله. ومن التقاء تلك العوامل الثلاثة نصل لأهم عامل من عوامل النمو الحضاري والذي يرتكز على العقل الإنساني وهو القدرة على الابتكار في العلوم والإبداع في الفنون والثقافة، وبنظرة شاملة نجد أننا قد خطونا خطوات واسعة في الطريق، وتنشأ الآن أجيال في الإمارات جزء من كيانها الثقافي القدرة الابتكارية والإبداعية،. وتقدم الدولة بقيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ونائبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي حفظهما الله كل الدعم لبناء المؤسسات العلمية والثقافية المختلفة التي تعمل على تنمية الطاقات الابتكارية والإبداعية لدى الشباب والأجيال الناشئة، والحرص على تطوير العملية التعليمية في الدولة لتكون عملية تفاعلية تعتمد الفهم والإدراك والإبداع. نحن نصنع حضارة تنمو على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة لن يقف تأثيرها على حدودها الجغرافية، لكن سيكون لها تأثير ثقافي ومعرفي وعلمي على المجتمع العالمي كله، فنحن مازلنا في طور الإنشاء والبناء، ونقترب من ترسية جوانب حضارتنا الإماراتية كافة بصبغاتها التطورية والقيمية ذات الخصوصية المتفردة والمتماسة مع الحضارات والثقافات العالمية كافة دون تمييز أو إقصاء. ويبقى هاجس الحتمية التاريخية لتطور الحضارات من مرحلة البناء لمرحلة الشباب ثم لمرحلة الشيخوخة والضعف ذلك الهاجس الذي يُولِّد في ذهني سؤالا هل تلك الحتمية غير قابلة للتغير؟ نعم أظنها قابلة للتغير، فليس هناك قواعد مجتمعية مطلقة، قد تتغير القواعد طبقا لتغييرات معطياتها، ومن هنا لابد وأن ندرك أننا نبني حضارة لتبقى، وتظل قوية ومشعة وقادرة على العطاء المستمر لذلك لابد وأن يكون في خططنا التنموية رؤية للوقاية من تلك العوامل التي تؤدي إلى ضعف الحضارات الإنسانية. من هنا أوجه دعوتي لكل المعنيين بالدراسات المجتمعية داخل دولة الإمارات العربية المتحدة بتقديم رؤيتهم وتوجيه جزء من دراساتهم المجتمعية إلى كيفية حماية الحضارة الإماراتية في المستقبل والمحافظة على بقائها شابة فتية وقوية. كما أقترح أن تعمل الدولة على إنشاء مؤسسة علمية معنية بصيانة الحضارة الإماراتية (مجلس صيانة الحضارة الإماراتية) تكون مهمته الرصد والدراسة المستمرة والتنبؤ بكل ما هو متغير داخل المجتمع، قد يؤدي إلى حدوث شرخ في جدار تلك الحضارة التي نعمل على بنائها، وتعنى بتقديم العلاجات لتلك الحالات، لتكون دولة الإمارات العربية مصدرا دائما للنور والحضارة في العالم، ونبني لأجيالنا التالية حصنا منيعا وسعادة دائمة، تظل ساكنة حدود وطننا الغالي دولة الإمارات العربية المتحدة. د.شما بنت محمد بن خالد آل نهيان