في مثل هذا الوقت منذ 500 عام، تمرد راهب ألماني على المسيحية الكاثوليكية. وقام بتعليق 95 ورقة على مدخل الكنيسة في مدنية وينتبرغ تضمنت كل ورقة منها رأياً مخالفاً لما تقول به الكاثوليكية. ولم تؤدِ تلك العملية فقط إلى ولادة الكنيسة الإنجيلية المنفصلة عن الكنيسة الأم، ولكنها أدت أيضاً إلى صناعة ألمانيا كما نعرفها اليوم. ولذلك أُعدّ أكثر من ألف مهرجان ومؤتمر احتفالاً بهذه المناسبة. أما الراهب المتمرد فهو مارتن لوثر. وقد كانت ألمانيا قبل ثورة لوثر على الكنيسة منقسمة على نفسها، تنفجر فيها الصراعات الدموية داخل وبين الكيانات المتعددة (كانت أشبه بالشرق الأوسط اليوم). ونجح لوثر في إعادة تركيب نسق العيش المشترك في ألمانيا، وصناعة ثقافة ألمانية جديدة، وحتى إعادة صياغة اللغة الألمانية على النحو الذي تعرف به اليوم. لم تلغ حركة لوثر الكاثوليكية فهي لا تزال مستمرة كنيسة رئيسة في البلاد، ولكن الكاثوليك يشكلون اليوم 30 في المئة فقط من عدد السكان، وهي نسبة مساوية تقريباً لعدد الإنجيليين، فالنجاح الذي حققته حركة لوثر يتمثل في توحيد الثقافة الألمانية، مما ساعد البلاد على تحقيق وحدتها في القرن التاسع عشر بعد صراعات وحروب داخلية دموية طويلة. كان الاعتقاد الديني العام يقول إن المسيحيين يتمتعون بالنجاة يوم القيامة لمجرد إيمانهم بالمسيح. غير أن لوثر جاء بنظرية جديدة تقول إن هذه النجاة مشروطة بالعمل بالأخلاقيات التي دعا إليها المسيح، وليس بمجرد الإيمان به. وإن الحكم على مدى الالتزام بهذه الأخلاق يعود إلى الضمير. ولم يأتِ لوثر بهذه الأفكار من عنده. أخذها عن فيلسوف ألماني سابق له. ويؤكد فيلسوف ألماني آخر أن هذه الأفكار الفلسفية- اللاهوتية هي أفكار مشرقية (وليست غربية في أساسها). وكانت الكنيسة تحرّم الموسيقا مثلاً. وقد صدر التحريم عن مراجع لاهوتية كبرى مثل جون كالفن وهيلاريخ زوينكلي السويسريين، إلا أن لوثر رفض التحريم. وتوجد في ألمانيا اليوم 130 فرقة موسيقية كبيرة. وقام لوثر بطبع الإنجيل باللغة الألمانية، وطلب من كل ألماني رجلاً كان أو امرأة أن يقرأه كواجب ديني. وهكذا تعلّم الألمان جميعاً القراءة والكتابة. وكان لوثر يقول بتداول المال، ويحرم اكتنازه (وهذه من تعاليم الإسلام). وكان يحرم كسب المال من دون عمل أو جهد (وهذه كذلك من تعاليم الإسلام). وكان يحض الفرد على العمل ليس من أجل نفسه فقط، ولكن من أجل المجتمع أيضاً. وهكذا أصبح العمل استجابة للإيمان أكثر مما هو أداة للكسب. وبالتالي أصبح ربح المال ليس لتخزينه، وإنما لتوزيعه. وتترجم نظرية لوثر الاقتصادية هذه في النجاحات الاقتصادية التي تحققها ألمانيا، وكذلك الدول الإسكندنافية (السويد والنرويج والدانمرك) التي تتمسك بمدرسته الكنسية الإنجيلية. أما سياسياً، فخلافاً لما كان عليه الأمر عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية تجمع بين السلطات الزمنية والروحية، أي بين الدين والدنيا، فقد فك لوثر الارتباط بينهما تماماً. وقد وجد الأمراء والإقطاعيون في ذلك الوقت في هذا الموقف الجديد مكسباً لهم، إذ تخلصوا من تحريض الكنيسة للفلاحين الذين كانوا يشنون حركات التمرد ضد رجال الإقطاع. ولكن على المدى البعيد، ثبتت صحة نظريته، حتى انتشرت كذلك في المجتمعات الكاثوليكية في أوروبا كلها. (ولا تزال هذه القضية موضع أخذ وردّ حتى الآن في المجتمعات العربية في الشرق الأوسط.. وكذلك داخل إسرائيل أيضاً). لقد طوى لوثر صفحة «الدولة الدينية» في أوروبا بعد أن كان الفاتيكان ينصب الملوك والأمراء، ويقود الجيوش في البر والبحر.. وعمل لوثر بمبدأ أن ما لله لله.. وما لقيصر لقيصر، حسب قول السيد المسيح! كان والد مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل راهباً إنجيلياً من كنيسة لوثر.. ويمكن الحكم على مدى التزامها بالتعاليم اللوثرية من تواضع ملابسها وأثاث مكتبها في المستشارية.. وكذلك كان الرئيس الألماني السابق جواكيم غوك راهباً في الكنيسة، إلا أنه تخلى عن عمله الكنسي عندما ترشح للرئاسة.. وقد استقال مؤخراً ليعود إلى الكنيسة من جديد، وانتخب مكانه وزير الخارجية السابق شتاينماير. ولعل من الأمثلة على مدى انعكاس تعاليم لوثر على الأخلاق العامة لدى الألمان، أن ألمانيا هي اليوم أكثر دول العالم تدويراً للنفايات، إذ تبلغ نسبة النفايات التي يعاد استخدامها أكثر من 65 في المئة. تليها مباشرة كوريا الجنوبية. إلا أن ثمة قضية سلبية خطيرة دفع الشعب الألماني، ولا يزال يدفع ثمنها غالياً حتى اليوم، وهي قضية اللاسامية. فمارتن لوثر كان لاسامياً، كارهاً لليهود باعتبار أنهم مسؤولون عن قتل المسيح. ولقد زرع هذه الكراهية في ثقافته الدينية التي صنعت الشخصية الألمانية. وربما كان ذلك وراء تجاوب الألمان مع المخطط النازي الرهيب بتصفية اليهود من خلال ما عرف بمشروع الحل الأخير أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان لوثر يعتقد أن اليهود تآمروا عليه شخصياً وأنهم قاموا بتسميمه.. وقد مات مسموماً فعلاً.