منذ سنوات قليلة صدر في الولايات المتحدة كتاب سرعان ما انتشر على نطاق واسع. عنوان الكتاب: «935 كذبة: مستقبل الحقيقة وهبوط المصداقية المعنوية الأميركية». ويدور الكتاب أساساً حول عمليات الخداع والاحتيال والكذب التي مارسها الرؤساء السابقون في الولايات المتحدة. أما مؤلف الكتاب فهو تشارلز لويس Charles Lewis. وقد صدر هذا الكتاب قبل سنوات من انتخاب الرئيس الحالي دونالد ترامب. إلا أن مؤلفه يقول الآن عن الرئيس الجديد وعن عهده: «لم يسبق لنا أن واجهنا في حياتنا السياسية حالة مماثلة لما نواجهه الآن، حيث كل شيء انقلب رأساً على عقب. وكل شيء مشكوك فيه، ولا شيء حقيقي». وبمعنى آخر فإن مؤلف الكتاب، الذي يترأس الآن «مركز الكرامة الوطنية» في الولايات المتحدة، يعتبر أن ما صدر عن ترامب من «أكاذيب»، لم يسبق أن صدر مثيل له عن غيره من الرؤساء السابقين.. وأنه قد تجاوز في مضامين أكاذيبه الأكاذيب الـ935 التي وثّقها عن الرؤساء السابقين جميعاً! ومن هذه الأكاذيب حديثه عن حجم المظاهرات الشعبية المؤيدة له ليلة تنصيبه رئيساً. ومنها نفيه أن يكون قد اصطدم مع أجهزة المخابرات المركزية الأميركية، وإعلانه أن ملايين الأصوات الشعبية التي حصلت عليها منافسته هيلاري كلينتون كانت أصواتاً مزورة. وخلال أول مقابلة صحفية له مع صحيفة «شيكاغو تريبيون» بعد دخوله البيت الأبيض، سجل المؤرخ الأميركي تشارلز لويس 12 كذبة جديدة للرئيس ترامب. منها مثلاً قوله إنه قد قُتل شخصان في تبادل لإطلاق النار أثناء خطاب وداعي كان يلقيه الرئيس السابق باراك أوباما في شيكاغو. والحقيقة حسب تقارير الشرطة أنه لم يقتل أحد، لأن أحداً لم يطلق النار! يومها علّق ترامب على حادث إطلاق النار الوهمي بأن نسبة الجريمة في شيكاغو ترتفع باستمرار، وأنها تسجل الآن رقماً قياسياً.. غير أن التقارير الأمنية تؤكد أن نسبة الجريمة «في تراجع ملحوظ». وقد سجلت صحيفة «واشنطن بوست» 24 تصريحاً خاطئاً أو مضللاً ألقاها ترامب في الأسبوع الأول فقط من تسلمه مسؤولياته الرئاسية. وفي عام 1987 صدر لدونالد ترامب نفسه، وكان يومها رجل أعمال، كتاب بعنوان «فن الصفقة» The Art of the Deal. وفي هذا الكتاب وصف ترامب تشويه الحقيقة من خلال تضخيمها بأنه «نوع بريء من أنواع المبالغة».. وأنه «نوع من أنواع التأثير من أجل الترويج والإشهار». وبهذا الأسلوب ضخّم حجم ثروته، وبالغ في تصوير نفسه على أنه عبقري من كبار عباقرة رجال الأعمال لترويج مؤسساته! ولكن هذا الأسلوب الذي قد يصلح لرجل أعمال ولصاحب فنادق وكازينوهات، هل يصلح لرئيس دولة؟ وبصورة خاصة لرئيس أكبر دولة في العالم، يحمل حقيبة مفاتيح الأزرار النووية؟ الآن وقد أصبح ترامب سيد البيت الأبيض، هل يستطيع أن يغير الأسس والمبادئ التي أقام شهرته عليها.. وبنى عليها ثروته.. وعبّد بها طريقه إلى الرئاسة؟ تتحدث الصحافة الأميركية بحرية وبوضوح عن هذه «الحقائق». ولذلك يصف ترامب هذه الصحافة بأنها «عدو إدارته الجديدة». وأن ما تقوم به الصحافة في الولايات المتحدة وفي العالم هو بمثابة إعلان حرب عليه. وذهب إلى حد وصف الصحفيين بأنهم «من أكثر الناس كذباً وخداعاً في العالم». ومن هنا يبدو بوضوح أن ترامب لم يغير صورة أميركا أمام شعوب العالم، ولكنه يغير صورة أميركا أمام الشعب الأميركي نفسه. وهذا ما يفسر الانتفاضة المعارضة له ولمبادرته ولأسلوبه التي عمّت المدن الأميركية كلها تقريباً. وقد ذهبت بعض الولايات الأميركية -مثل كاليفورنيا مثلاً- إلى حد رفع شعارات الانفصال، لأن ما يقول به ترامب يتناقض في الأساس والجوهر مع المبادئ الديمقراطية التي قامت على أساسها الدولة الأميركية. ولم يسبق في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية الطويل، أن استُقبل رئيس جديد بمعارضة علنية وشعبية وسياسية وإعلامية بحجم المعارضة التي استقبل بها ترامب. غير أن المفارقة الأشد غرابة تتمثل في أن بعض الدول الصديقة والمتحالفة مع الولايات المتحدة كدول الاتحاد الأوروبي هي الأشد رفضاً لسياسته، وللمبادئ التي يقول بها، وأن الدول غير الصديقة مثل الاتحاد الروسي هي الأشد ترحيباً به وبإدارته. فالاتحاد الأوروبي يتهم ترامب بالعمل على تقويض أركان الاتحاد بتشجيع الانسحاب منه بعد الانسحاب البريطاني الذي باركه واعتبره خطوة تحتذى في الطريق الصحيح! لقد نجح ترامب في إثارة ضجة عالمية حول نفسه حتى أصبح اسمه على كل شفة ولسان. وذلك من خلال عملية بسيطة جداً وهي: قلب الأمور رأساً على عقب!