بين عامي 1935 و1975 نشر «ويل وآرييل ديورانت» سلسلة كتب عرفت باسم «قصة الحضارة». وسردا في الأساس قصة التاريخ البشري والغربي منه غالباً باعتباره تراكماً لأفكار وابتكارات عظيمة من المصريين واليونانيين و«الماجنا كارتا» وعصر الإيمان إلى عصر النهضة وإعلان حقوق الإنسان. وحظيت هذه السلسلة بنجاح كبير، وباعت أكثر من مليوني نسخة. وكانت هذه القصة تقدمية بشكل واثق. وأشارت القصة إلى شخصيات عظيمة على الطريق، مثل سقراط وارازموس ومونتسكيو وروسو، ممن ساعدوا في دفع الأمم إلى بلوغ قيم إنسانية عالية. وهذه القصة عن الحضارة الغربية ركزت على قيم معينة مثل أهمية الخطاب العقلاني، وأهمية حقوق الملكية، والحاجة إلى ميدان عام يستقي مادته من الدين، لكن من دون هيمنة دينية. ووضعت معياراً لما يبدو عليه رجل الدولة العظيم. وقدمت للناس المختلفين مهمة مشتركة ومصطلحات مشتركة، وإطار عمل يمكن أن يدور فيه الجدل السياسي، وأهم من هذا أنها قدمت مجموعة من الأهداف المشتركة. وقبل عقود، فقد كثير من الناس، خاصة في الجامعات، الإيمان بقصة الحضارة الغربية. وتوقفوا عن تدريسها وأنهار «السير العظيم» الناقل لحركة الحضارة. والآن يتعلم كثير من الطلاب أن الحضارة الغربية هي تاريخ للقمع. والتأثيرات البعيدة المدى لهذا مذهلة. والأمر يبدو كما لو أن الرياح التي كانت سائدة، وتحرك كل السفن في البحر، توقفت فجأة عن الهبوب. والآن ظهر عدد من الأعداء المتفرقين لهذه القيم الغربية، وليس هناك أحد يدافع عنها فيما يبدو. وأول نتيجة تمثلت في تصاعد غير الليبراليين والسلطويين الذين لا يؤمنون بالقيم الديمقراطية لقصة الحضارة الغربية بل ولا يتظاهرون حتى بأنهم يؤمنون بها كما فعل الطغاة السابقون. ودخلنا عصر الطغاة، وغادرنا عصر أوباما وكاميرون وميركل، وندخل عصر فلاديمير بوتين وكيم يونج أون ودونالد ترامب. وما وقع في تركيا الأسبوع الماضي ليس إلا جزءاً من هذا التوجه. فقد تم تفكيك بعض المؤسسات الديمقراطية، وحل محلها طغيان الأغلبية. وتركيا فقدت الرغبة فيما يبدو في الالتحاق بالفكرة الأوروبية التي لم يعد لها جاذبية ولا إغراء. وفقدت تركيا أيضاً فيما يبدو طموحها في الانضمام إلى مجتمع الدول الأوروبية. وهناك عدد يتزايد من الحكومات التي تبدو كما لو أنها دول عصابات مافيا «ما قبل حداثية»، تديرها تكتلات اقتصادية. وفي الوقت نفسه، تتحول الأنظمة ذات المؤسسات التي تقوم على أساس الحزب مثل الصين وروسيا إلى تقديس شخصية الزعيم. ثم هناك انهيار الوسط. فعلى مدار عقود تحلقت أحزاب «يسار الوسط» و«يمين الوسط»، حول نماذج مشابهة من الرأسمالية الديمقراطية التي تشير الحضارة الغربية إليها في ما يبدو. لكنّ كثيراً من أحزاب الوسط، مثل حزب «العمال» في بريطانيا وهولندا، أوشكت على الانهيار، وأحزاب الهامش تتصاعد. وفي فرنسا، أسفرت نتائج المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة عن وصول «مارين لوبان» مرشحة اليمين المتشدد للمرحلة الثانية، علماً بأن صعودها يحمل في طياته تهديداً للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وهما المؤسستان الليبراليتان العظيمتان في أوروبا الحديثة، اللتان ستتعرضان للخطر، في حال فوز «لوبان» في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، المقرر إجراؤها في 7 مايو المقبل. وأخيرا، انهارت القيم الليبرالية في الولايات المتحدة. وداخل الحرم الجامعي يعارض بلطجية ضعفاء يطلقون على أنفسهم طلبة أي متحدث ويسيئون معاملته كل أسبوع. وفي أميركا، يبلى النسيج الأساسي للحكم الذاتي المدني فيما يبدو، بعد فقدان الإيمان بالقيم الديمقراطية. ووفقا لدراسة نشرت في صحيفة «ذي جورنال أوف ديموكراسي»، تقلصت نسبة الشباب الأميركيين الذي يقولون إنه من المهم تماماً العيش في بلد ديمقراطي من 91% في ثلاثينيات القرن الماضي إلى 57% حالياً. وانتهك دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية كل أعراف رجل الدول التي تشكلت عبر قرون. وكثير من الناس لم يلاحظوا أو لم يهتموا بالأمر. والإيمان بالغرب انهار من الداخل. كما أن تباطؤ الناس عن النهوض للدفاع عن هذا الإيمان يثير العجب. والفكرة العامة هذه الأيام عن الحضارة الغربية هي أنها رجعية وقمعية. وكل ما يمكنني قوله هو إذا كان المرء يعتقد أن الحضارة الغربية رجعية وقمعية فعليه أن ينتظر حتى يرى ما سيأتي به العالم. *كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»