توصف قبرص بأنها مقبرة المبادرات الدبلوماسية. ففيها تواصل قوات الأمم المتحدة المهمة الأطول في تاريخ المنظمة الدولية، وهي مستمرة منذ عام 1974 حتى الآن. وقد تعاقب على طاولة المفاوضات مسؤولون دوليون، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وقد انقسمت الجزيرة في عام 1974، بما في ذلك عاصمتها نيقوسيا. ولا تزال منقسمة حتى اليوم. قسم شمالي تركي يضم ثلث الجزيرة، وقسم جنوبي يوناني يضم الثلثين. ووقع الانقسام بعد سلسلة من الأحداث العسكرية والسياسية. بدأت هذه الأحداث مبكراً. وقعت قبرص تحت الاحتلال البريطاني كجزء من حصة بريطانيا إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية. يومها رفع سكان الجزيرة من أصول يونانية شعار وحدة جميع اليونانيين الذين كانوا تحت السيطرة العثمانية (بما في ذلك اليونان). ومن أجل هذا شنّوا حرب عصابات ضد الاحتلال البريطاني ولكن دون طائل. وقد أيدت الولايات المتحدة في ما بعد استمرار الاحتلال البريطاني بذريعة قطع الطريق أمام الاتحاد السوفييتي للتسلل إلى شرق المتوسط. ووافق الأسقف مكاريوس زعيم القبارصة اليونانيين على الاستقلال بديلاً عن الوحدة مع اليونان، ووضع دستوراً للدولة الجديدة في عام 1960 ينص على أن يكون الرئيس قبرصياً يونانياً، وأن يكون نائبه قبرصياً تركياً. وأما الجهاز المدني للدولة فيقسم بين الشريحتين بنسبة 70 في المئة لليونانيين و30 في المئة للأتراك. وبموجب ذلك تعهدت كل من بريطانيا وتركيا باحترام استقلال وسيادة الدولة الجديدة. ولسبب ما علّق الرئيس مكاريوس العمل بالدستور، فانفجر الصراع بين الجماعتين التركية واليونانية. وفي 1974 تمكنت الجماعة القبرصية اليونانية المسلحة من إقصاء الأسقف مكاريوس عن السلطة وحمله على مغادرة البلاد إلى المنفى، ورفعت شعار الوحدة مع اليونان. وفي يونيو من ذلك العام، غزت تركيا الجزيرة ودخلت القسم الشمالي منها حيث تتواجد الأكثرية التركية. وقد أدت هذه الأحداث إلى هجرتين متعاكستين: هجرة تركية من جنوب الجزيرة إلى شمالها، وهجرة يونانية من شمالها إلى جنوبها. ومع الوقت تلاشت الدعوة إلى الاتحاد مع اليونان، وأدرك زعيما الشمال والجنوب أنه لا مفر لهما من التفاهم. وتم الاتفاق على مبدأ إقامة اتحاد فيدرالي بين القسمين.. كخطوة أولى نحو الوحدة. ولكن تبين أن زعماء كل من القسمين كان لهم مفهوم مختلف لهذا الاتفاق، وخاصة عندما دخل الطرفان في التفاصيل. وقد شملت تلك التفاصيل موضوع عودة المهجرين، ومعالجة ممتلكاتهم في قسمي الجزيرة، كما شملت موضوع دور الدول الثلاث الراعية للاستقلال، تركيا واليونان وبريطانيا. فالمفهوم القبرصي اليوناني للاتحاد الفيدرالي كان يعني إلغاء التسمية القومية التركية واليونانية في شطري الجزيرة. غير أن الأتراك كانوا قلقين كأقلية من أن تسيطر عليهم الأكثرية اليونانية القبرصية. وأدى الانقسام إلى وضع 36 في المئة من مساحة الجزيرة تحت السيطرة التركية، ولكن بموجب الاتفاق المقترح، فإن هذه المساحة ستتراجع إلى 26 في المئة فقط. وقد تدخلت الأمم المتحدة لتسوية الخلاف. وكانت آخر أهم محاولة هي تلك التي تولاها الأمين العام الأسبق للمنظمة الدولية كوفي أنان. ونصت التسوية المقترحة على إقامة حكومة مشتركة من الجانبين، وعلى إعادة النظر في تقسيم المنطقتين التركية واليونانية. كما نصت أيضاً على عودة جزئية للمهجرين من الجانبين إلى بلداتهم وقراهم السابقة، وإلى تخفيض تدريجي للقوات التركية واليونانية التي دخلت الجزيرة. وقد بدا أن الأمور بدأت تسير باتجاه التسوية، وخاصة بعد أن وافق الاتحاد الأوروبي على قبول طلب انضمام الجزيرة إلى الاتحاد. ولكن في شهر أبريل 2004، أي قبل أسبوع واحد فقط من إعلان الانضمام الرسمي، رفض القبارصة اليونانيون في استفتاء عام مقترحات الأمم المتحدة التي وافق عليها بنسبة عالية القبارصة الأتراك. وهكذا عادت الأزمة مرة أخرى إلى نقطة الصفر! فقبرص اليوم عضو في الاتحاد الأوروبي. ولكنها لا تزال منقسمة على ذاتها. ويتمتع بالعضوية الأوروبية القبارصة اليونانيون فقط. أما الجزء التركي من الجزيرة فلا يتمتع سوى باعتراف دولة واحدة به، هي تركيا. وفي شهر سبتمبر من العام الماضي (2016)، جرت محاولة دبلوماسية جديدة للتوفيق بين زعيمي شطري الجزيرة، في منتجع سويسري بإشراف الأمم المتحدة. وبالفعل اجتمع الرئيسان القبرصيان التركي مصطفى أكينشي واليوناني نيكوس أنتساسيد.. وكانت النتيجة أنهما قد تفاهما على ألا يتفاهما.