هل تمثل إيران تهديداً حقيقياً لجيرانها أم هي مجرد أوهام خليجية تتضخم يوماً بعد يوم؟ والسؤال الذي يجب أن يُطرح هنا هو: هل إيران مجتمع متماسك ومحصن داخلياً؟ هل تمتلك إيران المناعة والتماسك الداخلي الذي يؤهلها لممارسة قوتها بجدارة خارجياً؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة تقتضي النظر إلى التركيبة السكانية للمجتمع الإيراني والتوزيع الجغرافي للسكان. فإذا نظرنا إلى المناطق الحدودية للجمهورية وأطرافها يتبين أن هذه المناطق ترتكز فيها أقليات ذات نسيج عرقي متباين ولا تربطها أي صلة بالمكون الفارسي الذي يتركز في وسط الجمهورية الإيرانية، وهذه الأقليات لها امتداداتها الخارجية مع دول الجوار الجغرافي. فإذا اسُتثمِرت هذه الأقليات من الخارج، فلا شك أنها ستهدد الاستقرار السياسي الإيراني. وتعتبر التركيبة العرقية لأي مجتمع عاملاً مهماً في قياس قوة الدولة، فالمجتمع الذي يتكون من نسيج عرقي واحد أو اثنين يكون من السهل أن يحقق الاندماج والوحدة القومية في إطار هوية وطنية واحدة. أما إذا تعددت الأعراق في المجتمع الواحد، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف الوحدة الوطنية، وربما يزيد من احتمالات الانفصال والتمرد فيه. وحتى لو كان المجتمع يتكون من عِرق واحد أو اثنين فهناك عاملان يؤثران في التماسك الداخلي للمجتمع وهما: العامل الأول هو العدالة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين أو المعتقد، وهذا الأمر يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق الوحدة الوطنية. والعامل الثاني هو الدين واللغة والعادات والتقاليد المشتركة بين جميع أطياف المجتمع، وهو من العوامل التي لا غنى عنها في تحقيق الوحدة والاندماج بين أفراد الشعب. وعندما ننظر إلى التركيبة الداخلية للمجتمع الإيراني نجد أنه يتكون من مجموعات متباينة الأعراق. ومن بين هذه الأعراق هناك أقليات لها امتداد في الخارج، فإقليم عربستان يقطنه عرب ولهم امتداد خارجي مع العراق ودول الخليج في الجنوب، والبلوش الذين يقطنون في جنوب والجنوب الشرقي من إيران لهم امتداد في إقليم بلوشستان مع دولتي باكستان وأفغانستان، أما التركمان فيجاورون تركمانستان، والأذريون يقطنون المنطقة الشمالية الغربية من إيران أي جنوب جمهورية أذربيجان، والأكراد يقطنون في الأجزاء الشرقية من الأراضي الإيرانية، ولهم امتداد في تركيا والعراق (ويجاورهم أكراد من الجهة الغربية من إيران يقطنون في كل من سوريا وأرمينيا)، والتي تعد جزءاً من الحلم الكردي الكبير لتلك الأقليات القاطنة في تلك الدول. وجدير بالذكر أن تلك الأعراق المختلفة اتحدت معاً لإزاحة النظام الديكتاتوري في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، والتفت حول قائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني أملاً في استرجاع حقوقها. أما من حيث نسب السكان، فإن الفرس والآذريون يُشكَّلون نسبة 75% من القومية الإيرانية في حين تمثل نسبة الـ 25% الباقية أقليات مختلفة من العرب والأكراد واللور والبلوش والتركمان. ومِنْ ثَمَّ يتضح أن إيران تواجه مشكلة التنوع العرقي مما يعيق تحقيق الهوية الوطنية الموحدة لجميع أطياف المجتمع، وما يترتب على ذلك من إضعاف التماسك الاجتماعي للمجتمع، ولكن يمكن التغلب على هذه المعوقات من خلال سياسة العدالة وإرساء ثقافة المواطنة داخل المجتمع الإيراني. ومع هذا لا تزال هناك عصبيات عرقية بين العرب والفرس من جهة وبين الفرس والتركمان من جهة أخرى. أما من حيث التركيبة الدينية والمذهبية للمجتمع الإيراني فهو يتألف من 98% من المسلمين منهم 91% من الشيعة و7% من السنة بينما يمثل المسيحيون واليهود والزرادشتيون نسبة ضئيلة في المجتمع الإيراني. وتعاني إيران من بعض الاضطرابات الطائفية في إقليم بلوشستان وإقليم عربستان وإقليم كردستان لأسباب عرقية وطائفية تعيق دمج المجتمع في بوتقة واحدة. ولا جدال في أن هذه الاضطرابات من أبرز التحديات التي تواجه التماسك الداخلي للمجتمع الإيراني، وبالرغم من أن هذه القضية لم تنل حظها من التغطية الإعلامية، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي تسلط بعض الضوء على الهموم والقضايا التي تشغل هذه الأقليات. بالنسبة للأكراد فهم يشكلون نحو 10.7% من سكان إيران، أي نحو سبعة ملايين نسمة وبذلك فهم العرقية الثالثة في إيران بعد الفرس والآذريين ويتركز وجودهم في جبال زاغروس على امتداد الحدود مع تركيا والعراق. ويسكن الأكراد في محافظة كردستان وقد قام أكراد إيران بانتفاضات عديدة أدت في الأربعينيات من القرن الماضي إلى إنشاء جمهورية مهاباد الكردية، غير أن الإيرانيين وعلى رأسهم الشاه محمد رضا بهلوي سحق الجمهورية الفتية، التي أعلنت حكماً ذاتياً للأكراد في إطار إيران الموحدة، بقوة السلاح والجيش وأعدم زعيمها القاضي محمد والعديد من رفاقه. وقام الأكراد في الستينيات بحرب عصابات ضد نظام الشاه في جبال كردستان الوعرة غير أنهم لم يستمروا طويلاً حيث قضى عليهم الجيش الشاهنشاهي وقتل زعماءهم، وأبرزهم الملا اوارا، ومحمد معيني. وابتهج الأكراد عندما سقط الشاه، في فبراير 1979م، واشتركوا مع بقية الشعب الإيراني في الشعور بقُرب رفع الظلم عنهم، وتوقعوا بأن يحصلوا من السلطة الشيعية الجديدة على الحكم الذاتي. ولما انكشف الأمر لهم بأن الحكومة الإيرانية تنظر إليهم على أنهم جزء لا يتجزأ من السيادة الإيرانية، شكلوا لأنفسهم ميليشيات عرفت باسم «البشمركة» ويتعرض الأكراد الذين يطالبون بالحكم الذاتي لحملة قمع دموية. ومن بين من تعرضوا له اغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو رئيس الحزب «الديمقراطي الكردستاني» بمدينة فيينا عاصمة النمسا في يوليو 1989 مع اثنين من رفاقه على أيدي عناصر من المخابرات الإيرانية. أما عن البلوش، فإن إقليم بلوشستان يقع في المناطق الحدودية ما بين ثلاث دول وهي باكستان وأفغانستان وإيران. ويبلغ عدد سكانه في الجانب الإيراني نحو مليون نسمة. وتم احتلال بلوشستان في عهد الشاه رضا بهلوي عام 1928، وتم إعدام ملك بلوشستان الغربية. وتعامل الحكومة الإيرانية أفراد الشعب البلوشي كمواطنين من الدرجة الثالثة، ويُحرم الشعب البلوشي من أغلب الحقوق الإنسانية، فالبلوش يُمنعون من تلقي التعليم بلسانهم الأم (اللغة البلوشية)، ولا يتمتعون بتسهيلات تربوية كافية لإعدادهم بالمعرفة والتعليم المناسب للدخول إلى الجامعات الإيرانية، والبلوش من المسلمين السُنة. وفيما يتعلق بسوق العمل والتوظيف، فإن الشباب البلوشي سواء الرجال والنساء يواجهون عقبات أخرى بسبب العرق واللغة والثقافة والدين، وبكل بساطة هؤلاء يتم إقصاءهم لأنهم بلوش، ومعظم البلوش يضطرون إلى مغادرة موطنهم بحثاً عن فرص عمل. فالبلوش في إيران يقاسون لأنهم كما يصفون وضعهم «يعيشون تحت سياسة التمييز العنصري من قبل الحكومة الإيرانية». ونتيجة لذلك شكلت هذه الأقلية جيشاً يُعرَّف باسم «جيش العدل»، وهو الجناح العسكري لـ«حركة المقاومة البلوشية» وأكد هذا الجيش في بيان صادر عنه تأييده لفكرة «التحالف الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية.» وقال «جيش العدل»: «إن الإجرام الحوثي بحق الشعب اليمني.. ما هو إلا امتداد لجرائم النظام الإيراني، ضد دول المنطقة والخليج العربي خصوصاً، والعالم الإسلامي عموماً، وقد كنا نتمنى تشكيل مثل هذا التحالف المبارك منذ زمن لقطع دابر الإجرام الفارسي.» أما العرب فهم يشكلون ما يقارب 7 في المائة من عدد السكان، أي نحو 5 ملايين نسمة. ويقطن أغلبهم في إقليم الأهواز أو إقليم عربستان. وتاريخياً كان الإقليم يشكل إمارة مستقلة في بعض الأحيان أو يتبع الدولة الإيرانية اسميا فقط حتى قام رضا بهلوي بضم الإقليم بالقوة بعد أن كان تحت حكم الشيخ خزعل جابر الكعبي شيخ مدينة المحمرة الذي أسس الدولة الكعبية، ثم تم اغتياله والقضاء على دولته. ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد التنظيمات الأهوازية المعارضة للنظام الإيراني بأن هذا الإقليم ضم عام 1925 قسراً- أي في نفس السنة التي حكمت فيها الأسرة البهلوية -وتسعى هذه التنظيمات في سبيل استقلال الإقليم حتى يومنا هذا. ويعاني العرب الأهوازيون من العنصرية والتمييز سواء كان في العمل أو الالتحاق بالجامعات فمذهبهم هو المذهب السني ولغتهم هي اللغة العربية -وهي مزيج من اللكنة الخليجية والعراقية- واللغة العربية ممنوع استخدامها في المؤسسات التعليمية والمؤسسات الحكومية الإيرانية. وحتى الزي الخاص لهذه الطائفة وهو أشبه بالزي الخليجي يُحظر التنقل به في إقليم الأهواز. ويتخذ هؤلاء العرب مواقف مؤيدة للقضايا العربية ويصفون الفرس بأنهم محتلون اغتصبوا أراضيهم ومارسوا سياسة الفرسنة ضدهم، وأهم ما تم تناقله في وسائل التواصل الاجتماعي في أعقاب تفجير القنصلية السعودية في مشهد والسفارة السعودية في طهران ما يلي: «حركة النضال العربي (الأهوازية) ترحب بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وتقف بكل قواها الميدانية والسياسية مع المملكة العربية السعودية ضد العدوان الفارسي البغيض» وأخيراً يؤكد لنا المختص في الشؤون الإيرانية، الإعلامي الأهوازي محمد مجيد أن إيران مثلما تمارس تخصيب «اليورانيوم» وأنشطتها النووية بخفاء وتحت أنفاق مظلمة، فإنها في الوقت نفسه تعدم الآلاف من السجناء في إقليم الأهواز وبلوشستان وكردستان سنوياً في معتقلات سرية، بعيداً عن أعين الهيئات الحقوقية العالمية. فهذه الأقليات تنظر بعين الاتهام إلى الحكومة الإيرانية، وأي محاولة لمواجهة السلطات الإيرانية يكون مصير المشاركين فيها الاعتقال والاغتيال. ومن الواضح بأن وسائل الإعلام والمجتمع الدولي لم يُبدٍيا اهتماماً بممارسات الحكومة الإيرانية فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان للأقليات التي تقطن في إيران. ويمكن القول إن تحقيق العدالة والمساواة بين أطياف المجتمع الإيراني متعذر الحدوث بسبب تعقيد تركيبة الأقليات، ولذلك قامت كل أقلية بتشكيل حركة مقاومة مسلحة ومنها جيش البشمركة وجيش العدل وحركة المقاومة العربية الأهوازية ومما يزيد الوضع سوءاً ممارسات الحكومة الإيرانية ضد هذه الأقليات. فلا يمكن تحقيق اندماج حقيقي في المجتمع الإيراني يرسخ مفهوم الوحدة الوطنية المرجوة دون إرساء مبادئ العدالة والمساواة بين مختلف مكونات المجتمع. د.نورة صابر المزروعي: أكاديمية إماراتية