كانت أميركا دائماً بلداً واسعاً ومنقسماً، ولكنها ظلت خلال معظم تاريخها متلاحمة ومتماسكة بفضل قصة قومية موحّدة، ومثلما أشرتُ إلى ذلك قبل بضعة أشهر، فإنها كانت قصة هجرة. قصة ترك اضطهاد العالم القديم، وركوب غمار العيش في البرية وإنشاء أرضٍ موعودة جديدة. وفي هذه القصة، مثّلت أميركا إنجازاً للتاريخ البشري، وآخر أفضل أمل للأرض. في خطابٍ رائع ألقاه بمركز البحوث «أميركا الجديدة»، قال الكاتب الأميركي جورج باكر مؤخراً إن ثمة أربع قصص متنافسة في أميركا اليوم. أولاً، هناك القصة التحرُّرية التي تهيمن على الحزب «الجمهوري»، فأميركا أرضُ أفرادٍ أحرار مسؤولين عن مصيرهم، وهذه القصة تحتفي بدينامية السوق الحرة. قيمتها الأساسية هي الحرية. وفي هذا الصدد، كتب باكر يقول: «إن الفكرة التحرُّرية بشكلها الحالي تَعتبر الأميركيين مستهلكين، ورواد أعمال، وعمالاً، ودافعي ضرائب – كل شيء إلا مواطنين». ثانياً، هناك قصة أميركا المعولَمة، وهذه هي الرواية الشائعة في منطقة «سيليكون فالي» وغيرها. ويقول باكر: «إننا جميعاً تلاميذ نتعلم مدى الحياة، ونعمل من أجل المشروع أو الشركة الصغيرة المبتدئة. ولا شك أن العالم الأكثر انفتاحاً واتصالاً هو دائماً عالمٌ أفضل». هذه القصة «تأتي مع أيديولوجيا تسطيح الهرمية التراتبية، وتعطيل الأنظمة، وإزالة النخب القديمة، وتمكين الأفراد»، ولكن في الحياة الحقيقية، عندما يعرقل المرءُ البنيات القديمة، ينتهي به الأمر إلى تركيز القوى في أيدٍ قليلة، كما أن هذه القصة جيدةٌ بالنسبة للأشخاص الذين درسوا في جامعات مثل «ستانفورد»، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لمعظم الآخرين. ثالثاً، هناك قصة أميركا المتعددة ثقافياً. هذه القصة «تنظر إلى الأميركيين باعتبارهم أعضاء في مجموعات تحدِّدُ وضعَهم إلى حد كبير خطايا الماضي والحاضر»، يقول باكر: «وخلال سنوات أوباما، تحولتْ (هذه القصة) عموماً إلى عقيدة غير مدروسة بين النخب الثقافية». قصة التعددية الثقافية تهيمن على الأقسام الدراسية في أميركا، منذ المدرسة الابتدائية إلى الجامعة: «إنها تجعل منتجات هذا التعليم - الطلاب - أقل قدرة أو أقل رغبة في التفكير على نحو أكبر من مجموعتهم الهوياتية الخاصة - في ما يشبه نوعاً من النرجسية الثقافية - ما يعني أنهم لا يستطيعون إيجاد أرضية مشتركة أو حجج قوية يمكن أن تصل إلى الناس من خلفيات وآراء مختلفة. وأخيراً، هناك قصة «أميركا أولاً»، القصة التي تم طرحها العام الماضي، والتي لقيت صدى واسعاً بين كثير من الناخبين. إن «أميركا أولاً» هي القناعة بأن البلاد فقدت هويتها التقليدية بسبب التدنيس والضعف – تدنيس الآخرين، أجانب ومهاجرين ومسلمين؛ وضعف النخب التي ليس لديها ولاء للبلاد لأنه تمت عولمتها». ولكن هذه القصة تنظر إلى الخلف ومفعمة بالتشاؤم. وعملياً، يقول باكر: «هذه القصة تزدري القيم الليبرالية، ولديها طابع مستبد، كما أنها تضفي طابعاً شخصياً على السلطة، وتجعل الفساد روتينياً، وتزعزع استقرار فكرة الحقيقة الموضوعية». وشخصياً، لا أعتقدُ أن أياً من هذه القصص يمثّل أساساً ممكناً لحكم ناجح في القرن الحادي والعشرين، وقد قرأتُ للتو مقال مايكل ليند الرائع «الحرب الطبقية الجديدة» في دورية «أميركن أفيرز» («قضايا أميركية»)، وتحت تأثيره سأقول إن مستقبل السياسة الأميركية سيكون تنافساً بين قصتين أخريين مشتقين نوعاً ما من القصص الأربع المذكورة. الأولى هي النموذج التجاري الذي لا ينظر إلى أميركا كتراكم تاريخي، وإنما كقوة كبيرة في تنافس مع قوى منافسة، مثل الصين وروسيا وأوروبا وغيرها. وحسب وجهة النظر هذه، فأن تكون أميركياً يعني أن تكون عضواً في قبيلة، وبالتالي فالأميركي المثالي هو من يذود عن قبليته بكل قوة. وعلاوة على ذلك، فإن الحكومة والشركات الأميركية ينبغي أن تعمل معاً من أجل «حماية وظائفنا» والتصدي للقوى المنافسة، كما ينبغي إخضاع الهجرة والتجارة للسيطرة، وتقليص التدخلات في الخارج للحد الأدنى. وإضافة إلى ذلك، فإن نخب أميركا سيكون لديها حافز لتقاسم الثروة مع عمال أميركا لأنها تحتاجهم من أجل التصدي لأعدائهم المشتركين. والثانية هي المجتمع الموهوب. هذه القصة تنظر إلى أميركا على أنها أعظم مختبر في التاريخ لتطوير القدرات البشرية، وهذا النموذج يرحب بالتنوع، والتعيينات على أساس الجدارة والاستحقاق، والهجرة، والتجارة المفتوحة نظراً لكل الدينامية التي تطلقها هذه الأشياء، ولكن هذا النموذج يستثمر كثيراً أيضاً في الرأسمال البشري، وخاصة الشباب وأولئك الذين يعانون من سلبيات التدمير الخلاق. وفي هذا المجتمع، يحاط الولد والفتاة الفقيران بالرعاية والتثقيف، وكل شيء مصمم لخلق الطاقة والحركية المجتمعية. إن النموذج التجاري ينظر إلى أميركا على أنها روما جديدة، قلعة منيعة في عالم خطير. أما المجتمع الموهوب، فينظر إلى أميركا على أنها أثينا جديدة، مفترق طرق خلاق يؤدي إلى عالم مفتوح ومتناغم. إنها قصة هجرةٍ لعصر معلومات. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»