ماذا يعني أن تخرج الصين من وراء «السور العظيم»؟ وماذا يعني أن تعيد شق «طريق الحرير»؟ للإجابة على هذين السؤالين لا بد من تسجيل الملاحظتين التاليتين: الملاحظة الأولى هي انكفاء الولايات المتحدة على ذاتها تحت العنوان الذي رفعه الرئيس دونالد ترامب، وهو أميركا أولاً. وكانت الترجمة العملية لهذا العنوان ليست بالتعهد ببناء جدار مع المكسيك، بل بالانسحاب من معاهدة نافتا (مع كندا والمكسيك) وبالانسحاب أيضاً من المعاهدة التجارية مع دول المحيط الباسيفيكي. الملاحظة الثانية هي انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وارتفاع أصوات في العديد من الدول الأوروبية الأخرى بالانسحاب من الاتحاد أيضاً. صحيح أن أصحاب هذه الأصوات خسروا الانتخابات في هولندا وفرنسا، إلا أن الصحيح أيضاً أن الاتحاد بدأ يتآكل من الداخل، وأن طموحات الأوروبيين بلعب دور عالمي جديد بدأت بالانحسار. ومن هنا تبدو أهمية انطلاق القطار الصيني عبر طريق الحرير بقيادة الرئيس شي جينبينج. يبلغ طول طريق الحرير 260 ميلاً. وتبلغ نفقاته 6 مليارات دولار أميركي. ويربط الطريق – عبر السكك الحديدية ثماني دول آسيوية. والطريق ليس هدفاً في حد ذاته. أنه مجرد وسيلة للتواصل المباشر مع بكين اقتصادياً وسياسياً.. وحتى عسكرياً. من أجل ذلك تقدم الصين مساعدات إلى كل واحدة من هذه الدول تربطها بإحكام بالمصالح الاستراتيجية الجديدة للمارد الأصفر الذي خرج من قمقمه: أولاً باكستان: تقوم الصين ببناء موانئ وطرقات ومحطات لتوليد الكهرباء تبلغ تكاليفها 46 مليار دولار. كما تقوم بتوسيع ميناء «جوادر» على بحر العرب بكلفة مليار دولار. ويوفر المرفأ الموسع للأسطول الصيني التجاري والعسكري خدمات كثيرة. كذلك تقوم الصين بشق طريق سريع يربطها عبر كشمير بباكستان. وسيكون هذا الطريق الشريان الذي تتدفق عبره المنتجات الصينية إلى باكستان. ثانياً: في إندونيسيا تقوم الصين بالعمل على مد خط سكة حديدية يربط العاصمة جاكرتا بمدينة باندونج (التي ولدت فيها حركة عدم الانحياز في الخمسينات من القرن الماضي وكان الرئيس الصيني في ذلك الوقت شوان لاي أحد مؤسسيها)، وتتولى الصين تمويل المشروع بالكامل. وقد بدأ العمل فعلياّ منذ شهرين. وسيكون هذا الخط طريقاً سالكاً لنقل الإنتاج الصيني إلى العمق الإندونيسي.. كما أن من حسنات هذا المشروع أنه «يحسن صورة الإندونيسيين الذين يتحدرون من أصول صينية في إندونيسيا (وكان حاكم مدينة جاكرتا صينياً إلا أنه أسقط على خلفية عنصرية – دينية أثارت الكثير من الاضطرابات). ثم أن «الحضور» الصيني في كل من باكستان وإندونيسيا، وهما من الدول الإسلامية الآسيوية الكبيرة، سوف يبدد اتهام الصين بأنها ضد رعاياها في إقليم سينع شينغ بحجة أنهم مسلمون. ثالثاً: في كينيا تقوم الصين بتطوير وتحديث خط سكة الحديد الذي يربط بين مدينتي مومباسا ونيروبي عاصمة كينيا في أفريقيا. وكانت الحكومة الكينية قد فشلت في استدراج أي دولة أو شركة عالمية لتنفيذ هذا المشروع الحيوي. وجاءت الصين لتتبرع بتنفيذه ليكون أيضاً شرياناً لنقل منتجاتها إلى شرق أفريقيا. ومن المفترض أن ينتهي العمل في هذا المشروع في أواخر يونيو الحالي 2017، وهو المشروع الأول الذي ينفذ في أفريقيا بالمواصفات الفنية الصينية لخطوط السكك الحديدية. رابعاً: في طاجكستان وحتى قبل إطلاق مشروع «طريق الحرير»، تعهدت الصين في عام 2014 بمد خط للغاز من طاجكستان في آسيا الوسطى إلى بكين. ورغم تراجع استهلاك الصين من الغاز، فإن المشروع لا يزال قائماً.. واستمرار الالتزام بهذا المشروع يؤكد الحقيقة السياسية، وهي أن الصين تغلب أحياناً المصلحة السياسية حتى على المردود الاقتصادي. خامساً: في لاوس سبق أن قدمت الصين إلى لاوس، (وهي واحدة من أصغر وأفقر الدول في شرق آسيا) قرضاً بقيمة 800 مليون دولار. وقد عجزت لاوس عن تسديده رغم مرور الوقت المحدد للتسديد، فديون لاوس الخارجية تبلغ 70 بالمائة من حجم اقتصادها. مع ذلك لم تطالب الصين بتسديد القرض. وبدلاً من ذلك وافقت الصين على تمويل وبناء خط جديد للسكك الحديدية يسهل انتقال المواطنين اللاوسييين والبضائع الصينية من شمال الدولة إلى جنوبها. ولأن نفقات المشروع تبلغ 6 مليارات دولار، فان السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف ومن أين ستسدد لاوس حصتها المالية من هذا المشروع؟ الجواب عند الرئيس الصيني شي جينيبينغ. لايقتصر «طريق الحرير» على دول آسيا فقط. ولكنها تصل إلى عمق أوروبا. فقد اشترى الصينيون جزيرة يونانية، وحولوها إلى مرفأ خاص لتجارتهم. وهم يعملون الآن على مد خط للسكك الحديدية يربط بين بودابست في قلب أوروبا الوسطى وبلغراد عاصمة صربيا في البلقان. ومن خلال «المرفأ» اليوناني وخط سكة الحديد الأوروبية يقتحمون الأسواق التجارية الأوروبية بقفازات من حرير ! في الأساس خصصت الصين تريليون دولار لمشروع طريق الحرير هذا.. والذي يشمل 60 دولة في آسيا وأوروبا، بما في ذلك الشرق الأوسط. لا تحتاج الصين إلى إطلاق رصاصة واحدة لفتح أسواق العالم أمام منتجاتها، بل إنها لا تحتاج حتى إلى ممارسة أي ضغط سياسي. كل ما تفعله هو إعداد الدول المستهلكة لاستيراد منتوجاتها.. ويدها الفنية العاملة. إن مشروع السكة الحديدة في لاوس وحدها يُؤمن العمل لمائة ألف عامل صيني لعدة سنوات، ثم أن الصين تنتج من الفولاذ والحديد ما يفوق حاجتها، فماذا تفعل به إن لم تجد أسواقاً تستورده في مشاريعها الإنمائية؟ هكذا انكفأت الولايات المتحدة وأوروبا وأقدمت الصين. بعقلية جديدة وبأسلوب جديد.