كان مستشار ألمانيا الأسبق هيلمت كول مجتمعاً إلى رئيسة الحكومة البريطانية مارغريت تاتشر في أحد المنتجعات الألمانية. وبعد ان طال الاجتماع، قال كول لتاتشر إنه على موعد مهم جداً، وإنه مضطر للاعتذار عن مواصلة الاجتماع معها للحاق بالموعد الآخر المقرر سلفاً. تفهمت تاتشر الأمر، وأوقفت الاجتماع. خرج كول مسرعاً إلى سيارته وتوجه الى مكان الاجتماع الثاني. بعد دقائق خرجت تاتشر أيضاً. وبالمصادفة مرت من شارع وجدت فيه سيارة كول متوقفة. ففتحت نافذة سيارتها لترى كول في أحد مقاهي الرصيف يلتهم قطعة كبيرة من الحلوى، وهو يجالس أصدقاء على الرصيف، ومنذ ذلك الوقت قُطعت العلاقات بين الزعيمين. وماتت تاتشر بعد ذلك بعدة سنوات من دون أن تغفر له.. أو تتحدث معه، ومات هو الآخر في 16 يونيو الماضي. لم يكن مستشار ألمانيا السابق يتعمد التقليل من أهمية رئيسة الحكومة البريطانية التي كانت توصف بالمرأة الحديدية. ولكن الرجل كان نهماً أكولاً. كان يشكو من القلق أثناء الليل. وكان يعرف أن سبب الشكوى هو مغادرته الفراش إلى المطبخ لالتهام قطعة من الحلوى، أو شيء من الطعام. ولا يعني ذلك أن الرجل كان يعيش حياة سعيدة. لقد ماتت زوجته هانلور انتحاراً في عام 2001 للتخلص من آلام مرض عضال ألمّ بها. وعاش ابنه الوحيد «والتر» تحت حراسة دائمة من رجال الأمن خوفاً على حياته من انتقام جماعة إرهابية ألمانية هي حركة «بادر ماينهوف».. وفقد بذلك طفولته الطبيعية. تسلّم كول الحكم في وقت كانت ألمانيا فيه منقسمة إلى دولتين. وكان الانقسام يبدو أبدياً. حتى أنه لم يتردد في دعوة رئيس حكومة ألمانيا الشرقية- الشيوعية «أنريخ هوينكر» لزيارة ألمانيا الغربية- الرأسمالية. يومها أثارت دعوته ردات فعل سلبية في الولايات المتحدة وأوروبا. وعندما توحّد شطرا ألمانيا في عام 1989 كان كول مستشاراً (رئيساً للدولة). ويومها أثارت الوحدة قلق حلفائه وخاصة فرنسا. فالوحدة الألمانية تعني ألمانيا القوية من جديد، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. وهذا يعني بدوره احتمال العودة مرة أخرى إلى الحلقة المفرغة من الصراع الألماني مع أوروبا وخاصة مع فرنسا. وحتى يبدد هيلموت كول هذه المخاوف أرسى القاعدة العملية الأولى لمشروع الأحلام الأوروبي وهو الاتحاد. فكانت الوحدة الألمانية أساس الاتحاد الأوروبي. وعمل على إقرار العملة الأوروبية الموحدة -اليورو- ليس لأسباب مالية وإنما لأسباب سياسية في الدرجة الأولى. بذلك تراجعت المخاوف التي كانت الوحدة الألمانية تشكل مصدرها الأول. استقبل كول في برلين الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران. يومها حرص على أن تجري المباحثات بينهما في المقر الذي وقّعت فيه ألمانيا وثيقة الاستسلام بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ويومها حرص أيضاً على أن يقوم مع ميتران بزيارة إلى بلدة «فردان» التي كانت مسرحاً لأعنف المعارك التاريخية بين فرنسا وألمانيا التي دفعت فيها ألمانيا ثمناً غالياً جداً من خيرة أبنائها، وهي المعركة التي تعتبرها فرنسا تاج انتصاراتها العسكرية. واستقبل كول في برلين أيضاً الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، ورافقه إلى مقبرة كبار العسكريين الألمان الذين قتلوا خلال الحرب. إلا أن ريغان لم يعرف إلا متأخراً ومن أحد كبار المؤرخين، لدى عودته إلى واشنطن، أن المقبرة التي زارها تتضمن رفات زعماء وقادة من جهاز «س. س» (المخابرات الألمانية في عهد هتلر)! لقد مات كول من دون أن يقول كلمة واحدة حول ما إذا كانت مبادرته تلك عفوية أو مقصودة. يومها كانت ألمانيا منقسمة حول الموقف من اقتراح أميركي بإقامة قاعدة أميركية تنصب فيها قواعد لصواريخ تحمل رؤوساً نووية توجَه إلى الاتحاد السوفييتي السابق. كان الأميركيون مصرين على الاقتراح في إطار استراتيجية حلف شمال الأطلسي. وكان كثير من الألمان يريدون تجنيب بلادهم أن تكون مسرحاً لصراع نووي بين الشرق والغرب. ففي ذلك الوقت انسحبت القوات السوفييتية من دول شرق أوروبا. وتلقى العديد من هذه الدول دعوات مشجعة للانضمام إلى الحلف الأطلسي مثل بولندا وتشيكيا وهنغاريا. لقد كان انتقال هذه الدول من حلف وارسو إلى الحلف الأطلسي أبعد ما يكون عن التصور قبل عقد من الزمن. ولذلك وجد كول نفسه في وضع يسابق المتغيرات التي تعيد صناعة أوروبا من جديد. خرجت ألمانيا في عهده من تحت رماد الحرب لتصبح أغنى دولة أوروبية من جديد. ولكنه كان يريدها أن تتحول أيضاً من دولة مخيفة إلى دولة يثق بها الأوروبيون والعالم. ولم يكن ذلك سهلاً. فالرجل لم يكن يتقن أي لغة أجنبية، حتى أن لغته الألمانية كانت ضعيفة أيضاً. إلا أن «حظه» ساعده على ذلك. فقد ولد أثناء الحرب، ولذلك لم يشترك فيها. وكان عمره 15 عاماً عندما استسلمت ألمانيا. وهو يذكر أنه كان يقف بين جموع الأولاد لالتقاط قطع «الحلوى» التي كان يلقيها إليهم أفراد القوات الأميركية حين دخلت إلى ألمانيا بعد انتهاء الحرب مباشرة. إلا أنه سرعان ما أصبح أول سياسي ألماني يتبوأ السلطة في مرحلة ما بعد الحرب. لقد تولى المسؤوليات قبله كونراد أديناور الذي كان سجيناً سياسياً في العهد النازي- الهتلري، ولودفيغ إيرهارد الذي تعرض للاضطهاد في ذلك العهد أيضاً، وولي براندت الذي اختار السويد منفى له، وهيلموت شميدت الذي كان جندياً في الجيش النازي يقاتل في الجبهة الشرقية ضد السوفييت. أما هيلموت كول فكان وقتها صبياً صغيراً.. ينتظر التقاط الحلوى من الجنود الأميركيين لدى دخولهم المظفر إلى برلين!.. إلى أن أصبح المستشار الذي وحّد شطريْ ألمانيا، وأرسى قواعد الوحدة الأوروبية.